نجم عبدعلي تخرج في صيف العام 1979 من كلية الإدارة والاقتصاد قسم الإحصاء، التحق بعد تخرجه في الخدمة العسكرية، وكان يمني نفسه بعد انقضاء خدمته العسكرية التي أمدها واحد وعشرون شهرا ان يحصل على وظيفة في إحدى دوائر الدولة ليفكر بعد ذلك في الزوجة والأسرة، ولكن اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في سبتمبر/ أيلول العام 1980 واستمرارها ثماني سنوات غيّر من مجرى حياته، فبعد تسريحه من الخدمة العسكرية ووفاة والده وضرورة إعالة والدته واخوته اضطرته ان يرث مهنة أبيه ويعمل قصّابا. يقول نجم الآن وقد تزوج وأصبح لديه خمسة أولاد: «لست نادما على شيء... واعتقد أني لو كنت موظفا في زمن الحصار أمارس اختصاصي لكنت حتى الآن لم أستطع الزواج... وربما لن أقدر على التكفل بتدبير حياة أولادي أنا الآن اكسب شهريا ما يكسبه زملائي الذين اتجهوا للوظيفة في ستة أشهر وربما في سنة... بعض زملائي يأتي إليّ كل شهر مرة أو مرتين لشراء اللحم، بينما أنا «آكل اللحم يوميا».
وفاطمة محمد صبية عراقية أكملت الدراسة المتوسطة تسكن في مدينة صغيرة جنوب العراق، ملفاتها تؤكد انها متفوقة في جميع الدروس، والنتائج التي حققتها في المراحل الدراسية السابقة تشير هي الأخرى انها الأولى دائما. ولكنها مع ذلك تركت الدراسة لا لبعد المدرسة عن مسكنها، ولا لمرض تعرضت له، بل لأن عائلتها المعوزة لم تستطع ان توفر لها ثمن «العباءة» إذ تلزم الأعراف السائدة هناك البنت في مثل هذا العمر بلبس العباءة التي تضاعف سعرها بسبب الحصار 500 مرة، والمبلغ الذي ينبغي ان تدفعه عائلة فاطمة ثمنا للعباءة يكفي أفراد العائلة لشهرين أو أكثر، فتنازلت تلك الفتاة عن حقها الطبيعي في التعلم لتوفر لأبويها وأشقائها بعضا من لقمة الخبز. ومثل فاطمة آلاف الفتيات العراقيات اللاتي أجبرن على ترك مقاعد الدراسة بسبب الحصار
التاجر الذي تعيله زوجته
ورث التجارة عن أبيه يملك محلا في سوق دانيال في شارع النهر وسط بغداد يبيع فيه القماش، كان يكسب كثيرا، فقد كان في الثمانينات يقوم باستيراد الأقمشة من مناشئ مختلفة وفق إجازة ممنوحة من وزارة التجارة يحتسب بموجبها الدينار العراقي ولأغراض الاستيراد ثلاثة دولارات، مع ان سعر صرف الدولار في السوق السوداء قد بلغ في نهاية الثمانينات ثلاثة دنانير. وعلى رغم ان صاحبنا لم يحصل على شهادة إلا انه استطاع بسبب وضعه المالي ان يتزوج من فتاة جميلة وخريجة جامعة... ولأن الحصار أتى ليجعل دوام الحال من المحال... ساءت أوضاع صاحبنا المالية وتدهورت إلى درجة اضطرته إلى بيع محله وهجر تجارته وراح ينتقل من مهنة إلى أخرى، ولكن من دون جدوى إلى ان اضطره اليأس والسأم ان يجلس بالأولاد على الأقل خلال العطلة الصيفية لتعيله زوجته الموظفة، ولأن أعباء الحياة لا يسدها معاش الموظف فقد انعكس ذلك على استقرار العائلة وصارت تدب المشكلات المستمرة بين الزوجين، ولولا تدخل الأهل كثيرا ما كانت تبلغ الخلافات إلى حد الوصول إلى حافة الانفصال.
الطلاق الكهربائي
قبل عامين، كانت رضية كامل تشرح إلى قاضي الأحوال الشخصية في مدينة الناصرية جنوب العراق عندما سألها أسباب طلبها للتفريق عن زوجها، قالت بالحرف الواحد «لقد كانت حياتنا مثل أي زوجين تحدث بينهما مشكلات، إلا انها مؤقتة، ولكن في سنوات الحصار ازدادت هذه المشكلات ولاسيما في فصل الصيف»... وعندما سأل القاضي مستغربا ولماذا في فصل الصيف؟
أجابت رضية «ياحضرة القاضي أنت تعلم ان انقطاع التيار الكهربائي يصل أحيانا إلى 18 ساعة يوميا ولأن بعض أيام الصيف تصل درجة الحرارة فيها إلى معدل خمسين درجة مئوية أو أكثر فإنه يصبح حاد المزاج وعصبيا لأتفه الاسباب حتى انه يضربني ويضرب الاولاد بلا أسباب مبررة»... ولا اعرف إذا كان القاضي قد حكم إلى رضية بطلب التفريق، ولا اعرف فيما اذا كانت الحياة الزوجية بينها وبين وزوجها عادت الى مسارها الطبيعي ام لا بعد إن تحسنت اوضاع الكهرباء وقل انقطاعها هذا العام خصوصا صيفه؟
لماذا تجنّ الأم؟
أمام ظروف الحصار وأعبائه تدبروا الامر فقد باعوا بعض اثاث العائلة، مقتنياتها التي توفرت لديهم في ظروف الخير، واتفق الزوجان... أن يغامر الزوج فيسافر الى الخارج بحثا عن فرصة عمل تمكنه من توفير حياة ميسرة وكريمة لزوجته وأولاده الثلاثة وابنتيه كان ذلك قبل سبع سنوات، وبالفعل لم تمضِ إلا ستة اشهر حتى استطاع ان يحصل على عقد عمل... صار يرسل المال إلى اسرته... وبدأت الحياة تتيسر عليهم، اشتروا دارا بعد ان كانوا يسكنون بالايجار واشتروا سيارة وازدادت الطموحات واتسعت الاحلام... وكبر الاولاد ودخل بعضهم طور المراهقة وأصبحت الزوجة غير قادرة على التحكم بالمشكلات التي ساهمت في بعضها «البحبوحة» الاقتصادية، ولكن - يقينا - كان غياب الاب عن الاسرة سببا جوهريا في عدم حل المشكلات التي تحولت في اوقات معينة الى تمرد صار يميل الى التزايد، وبدأت اوضاع الانفلات تتزايد داخل الاسرة... وفي لحظة ولسبب ما وبعد صياح بين الام وابنتها وابنها انهارت الام ودخلت مصحة للامراض النفسية والعصبية، الاطباء شخّصوا الحال بانهيار عصبي حاد مع اعراض هلوسة... وضع الام استمر اشهرا بلا تحسن اضطر الاولاد بعدها ان يكتبوا لابيهم في الخارج يلحون في حضوره ويقولون له «أمّنا جنّت».
مطلّقة في العشرين
جميلة صغيرة، لم تنه الدراسة الثانوية، ولم تكمل سن الثامنة عشرة عندما جاء الى خطبتها رجل جاوز الاربعين عاما... مهندس عراقي الأصل اكمل دراسته في بريطانيا بعد ان ارسله اهله للدراسة، ولكنه لم يعد الى بلده، تزوج هناك من بريطانية وانجب منها طفلين الاولى كانت بنتا وهي الآن في عمر السادسة عشرة والطفل كان ولدا وهو الآن في عمر الرابعة عشرة، وبالطبع تجنّس الاب، لم يأت للعراق خلال عشرين سنة، لكنه بعد عشر سنوات من الزواج انفصل عن زوجته البريطانية... بعد عشرين سنة صار يتردد على العراق، وقرر الزواج من عراقية... ووقع نظره على الصبية الصغيرة فتقدم الى خطبتها... الصبية فرحت بهذه الخطبة مع ان وضع عائلتها الاقتصادي جيد جدا، كانت تداعب مخيلتها القصص التي يرويها الاهل عن الحنين للايام الخوالي عندما كانوا يقضون صيفهم في أوروبا. والأحاديث عن ذكريات السفر ممتعة يشترك فيها الجميع من الام الى الخالات والعمات وكيف كانوا في التسعينات يقضون الصيف في اوروبا ولبنان يصطافون ويتبضعون... وكانت القصص تروى بمزيد من التشوق عن الحياة في اوروبا... وامام هذه الخلفية المختزنة في ذاكرة الصبية والتي اضاف لها الخيال مزيدا من الرومانسية، تحمست الصبية للخطبة، سيما وان الاهل لم يمانعوا... وبعد اشهر وجدت نفسها اما قاضي الاحوال الشخصية تتعاقد على الزواج من الرجل دون وجوده ولكن بالوكالة المعطاة من قبله الى والده، وذلك لان اجراءات موافقة الجهات الرسمية العراقية على زواج العراقية من اجنبي تحتاج الى روتين طويل وموافقات تحتاج اشهرا، وصاحبنا في نظر القانون العراقي بريطاني وإن كان ابواه عراقيين وإن كان هو في الاصل عراقيا ويحمل الجنسية العراقية، فالقانون العراقي يسقط الجنسية العراقية عمن يتجنس بجنسية اخرى. على أي حال ذهبت الفتاة بصحبة والدتها الى عمّان وبعد مراجعات للسفارة البريطانية ترددت عدة مرات حتى حصلت على الفيزا لبريطانيا والتحقت بزوجها... انبهرت بالحياة في بريطانيا. ولكن سرعان ما بدا الانبهار يتلاشى ليتحول الى احباط... فمسكن الزوجية عبارة عن شقة لا تزيد مساحتها عن (70) مترا مربعا... فيما كانت غرفتها هي في بغداد وحدها ثلاثين مترا مربعا ومساحة المطبخ في بيت ابيها ببغداد اكثر من خمسين مترا مربعا... وهكذا بقية غرف البيت ومشتملاته... وكل ذلك لا يهم ولكن افتقاد الاهل والصديقات والقريبات واختلاف نمط الحياة ولمّة الاسرة كلها جعلتها لا تطيق الحياة في «الحياة الحلم» التي كانت تتمناها وتمنّي نفسها بها... وبدأت تقضي وهي تكتوي بنار الغربة، فيما زوجها الاربعيني العمر يأتي متعبا في المساء يميل الى الراحة لا يقوى على الحديث معها اكثر من كلمات واحاديث سرعان ما بدأت تتكرر.. لتصاب بالملل والرتابة والشوق إلى الاهل وكل شيء في العراق... كانت تمنّي نفسها بزيارة الاهل السنوية... لاحظ الزوج ذلك وبدا يحاول ان يفكر بطريقة يمكن ان تكسر الغربة والرتابة على زوجته الصغيرة، أتى في بادئ الامر بابنته لتسكن معهما لعلها تصبح صديقة لزوجته سيما ان عمريهما متقارب، وكان هذا الخيار غير موفق فقد جاء بنتائج عكسية... وفكر ان ينجب طفلا يشغلها وبالفعل حدث ذلك... وكان ان ارسلها الى بغداد لتلد هناك... وبعد الولادة أبت ان تغادر بغداد وطلبت الطلاق فتحقق لها... وكان قد مضى على زواجها سنتان.
اضحى هاجسه الاول والاخير تصفية كل ما يملك والسفر الى الخارج ، على رغم وضعه المادي المريح في بغداد، ولأن زوجته الثانية عارضته في تصميمه، ولكون «بيت» و«مشتمل» مسجّلين باسمها فكّر بالتخلص منها... ولم يراع انها أم لثلاثة اطفال منه... فانتهز اقرب فرصة وقام بتخديرها وطعنها بالسكين، ثم قام بحفر حفرة في الحديقة ودفنها فيها.. ثم قام بوضع الاسمنت عليها ونشر الطين والثيل (الحشيش) فوق الاسمنت للتمويه... ثم ادّعى في اليوم التالي خروج زوجته وعدم عودتها، وقام بابلاغ الشرطة عن اختفائها... واكثر من ذلك قام من خلال مكبرات الصوت في جامع المنطقة بالنداء عن فقدانها، وعلى من يتعرف عليها او على مكانها إبلاغ الشرطة أو ذويها... ونشر اعلانات عن فقدانها في الصحف والتلفزيون... ولأن اهلها يعرفون هاجس السفر عنده وكذلك جاراتها... ولأن الجثة بعد نحو أربعين يوما بدأت تطلق الروائح... ولأن «المرتاب يكاد ان يقول خذوني». فصار يرش مكان الجثة بمواد معطرة و«ماء الورد» حتى ازدادت شكوك الجيران حول الزوج... وذات ليلة وفي وقت متأخر قام بلبس كفوف في يديه وصار يحاول ان يحفر الحفرة من جديد في محاولة لنقل الجثة الى مكان آخر، فإذا بإحدى جاراته تراقبه من منزلها وتبلغ زوجها الذي أبلغ الشرطة في الحال وبقية الجيران لينكشف سر اختفاء الزوجة ليسافر بعدها الزوج المسكون بهاجس السفر إلى سجن «أبو غريب» بعد ان حكم عليه بالاعدام وهو بانتظار تنفيذه.
هذه الصور بالاجمال قطرة من بحر عمّا رسبه وفعله «كوسج» الحصار في الحياة العراقية
العدد 20 - الأربعاء 25 سبتمبر 2002م الموافق 18 رجب 1423هـ