«وجْهُكِ لا يجعلك جديرة برئاسة» الولايات المتحدة الأميركية. هذا التصريح قاله دونالد ترامب بحق كارلي فيورينا عندما نافسته على ترشيحات الحزب الجمهوري للرئاسة. ثم قال غامزاً إلى تيد كروز غريمه في ذات الترشيحات بأنني «سأكشف أسرار زوجتك». وعندما أصبح المنافس الوحيد للجمهوريين صار يستخدم ذات الأسلوب ضد منافسته عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون.
لقد قال مرة في ولاية نيو هامشير: «لا أدري ماذا يجري لها. في بداية المناظرة كانت مترنحة. لماذا لا نجري اختباراً على تعاطيها المخدرات؟». وعندما اشتدّت الحملة المناهضة له قال: «السباق الرئاسي الحالي يشبه انتخابات يشوبها التزوير». كان كل ذلك كافياً لأن يفرح الروس غرماء الأميركان. هم لا يريدون أكثر من هَزّة في القيم الأميركية وعدم الشعور بالأمان تجاه مؤسساتهم الدستورية.
كان أول خيط يلتقطه الروس من ترامب هو حين انتقد سياسة الرئيس باراك أوباما في الشرق الأوسط متهماً إياها بأنها «المسئولة عما تعيشه المنطقة من فوضى وإرهاب». ثم رأوا تلميحاً منه بأنه يمكن الاعتراف بروسية القرم وليس بأوكرانيتها، فضلاً عن إمكانية عقده (حين يصبح رئيساً) اتفاقاً مع الروس بشأن شئون الشرق الأوسط كي لا يدخل الطرفان في حرب باردة خاسرة.
لم يعد سراً أن يقول الأميركيون أن الروس باتوا يتدخلون. فـ هذا روبي موك قائد حملة هيلاري يصرح لـ «أي بي سي» هناك «مندوبون من روسيا انتشروا داخل لجنة الحزب الديمقراطي وحصلوا على رسائل البريد الإلكتروني وسربوها كي يُساعدوا ترامب، وبناء عليها قام ترامب بإدخال تعديلات على خطابه السياسي». بل إن أوباما قال شيئاً من ذلك عندما علّق على حديث الدعم الروسي لـ ترامب بالقول بـأن «كل شيء ممكن».
موسكو تعتقد بأن مناكفة الأميركان في العالم مكلفة كثيراً. وهي تتطلب قوات وموارد هائلة. لكن هناك معارك لا تحتاج إلى آحاد تلك الأرقام وهي التي يمكن شنّها في الداخل. وهذا النوع من المعارك (ما خلا أحداث سبتمبر) لم يعرفه الأميركيون إلاّ خلال الحرب الإعلامية في الحرب الباردة، وهو ما يعتبر بالنسبة لهم خطراً، بعد أن تيقنوا بأن الروس بات لديهم كوّة للدخول إلى عمق أميركا.
اليوم أصبح الساسة الأميركيون يتحدثون عن تآكل في رأسمالهم الدستوري والقيمي على وقع خطاب دونالد ترامب المستهتر والذي أصبح عرّاب تفكيك تلك المنظومة. فوصفه النظام الحزبي بالفاسد، والمحكمة الدستورية والجهات المشرفة على الانتخابات بالمزوِّرة يعني أن الحقيقة قد لا تجد ولاءً من الأميركيين بقدر ما يجده الكذب، وبالتالي تصبح الحياة العامة الأميركية في خطر.
والجميع يعلم أن المجتمعات والمؤسسات المتماسكة يمكن أن تكون هشة ومحطمة عندما تتعرض لحملة منظمة من الكذب والتدخلات المباشرة في عظم السمعة. هذا الأمر حصل في أكثر من مجتمع ودولة حول العالم، ليُفتَح الباب أمام تسونامي يجتاح التوافقات السياسية والاجتماعية ويجعل الناس في حِلٍّ من تمسكهم بالقانون وقيوده، سواء التمسك الطوعي أم المُرغِم .
نعم، ليس هناك دليل واحد على تدخل روسي مباشر، ولكن هناك ما يشبه الرغبة الروسية في أن يفوز ترامب على كلينتون. هو تحالف خافت بين طرفين يهمهما كسر شوكة التوجهات الأميركية في العالم بالنسبة لروسيا لوقف غلواء الناتو ومنطقة المحيط الهادئ، وكبح جموح رجالات تلك التوجهات بالنسبة لـ ترامب كي يحرز فوزاً ويصل البيت الأبيض.
والحقيقة، أن هذا الكأس (كأس التدخل في الشأن الانتخابي) هو سُمٌّ يبدو أنه بات مرتجعاً على الأميركيين الذين سقوا غير بلد منه طيلة سنين خلت. لقد عاثت الإدارات الأميركية السابقة في شئون كاريبية ولاتينية فساداً، وتدخلت في انتخابات وانقلابات أطاحت بزعماء منتخبين ديمقراطياً.
لقد تدخلت في إيران وأطاحت بـ مصدق قبل 63 عاماً. وتدخلت في كنغوليا وأطاحت واغتالت باتريس لومومبا قبل 55 عاماً. وصارعت الرئيس التشيلي سلفادور إليندي حتى أسقطته قبل 43 عاماً، بل وقالت عن شعبه (عبر هنري كيسنجر) بأنه مستهتر عندما اختار إليندي!
لا أعتقد بأن الغواتيماليين سينسون كيف أطاح الأميركيون برئيسهم الشرعي جاكوبو آربينز قبل 62 عاماً؛ لأنه أنصف الفقراء والمزارعين في بلده ضد توحّش الشركات الأميركية. بل ومن خلال قراءة التاريخ والوثائق السرية يظهر أنهم (وإلى جانب الروس) تدخلوا في 117 عملية انتخابية ما بين عام 1945 ولغاية العام 2000 كما يذكر دوف ليفن وأشار لها إيشان ترور في مقال له في الـ «واشنطن بوست».
تسجل تلك الوثائق أنه وفي العام 1948 تدخل الأميركيون في الانتخابات الإيطالية كي يفوز الديمقراطيون المسيحيون الوسطيون ضد منافسيهم. وليس سراً أن نعرف بأن تلك المساندة انطوت على تزوير وثائق لتشويه سمعة القادة اليساريين هناك، عبر اختلاق فضائح جنسية، وتحريض الأميركيين من أصول إيطالية كي يدخلوا في هذا الفزعة والادعاء بأن الشيوعية التهمت الكنيسة الكاثوليكية كما يشير ترور.
وكان مدير الحملة مارك وايت، (وهو ضابط كبير بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية) يقول: «كانت لدينا أكياس من المال سلمناها إلى ساسة مختارين لمقابلة نفقاتهم السياسية ومصروفات الحملة والملصقات والكتيبات الدعائية». لم يحدث هذا فقط في الغرب بل في الشرق أيضاً عبر دعم حملة رامون ماجسايساي في الفلبين والحزب الديمقراطي الليبرالي في اليابان.
هذا هو السِّجل الأميركي مع الدول والشعوب. وهذه هي ساقية التاريخ التي تُبدِّل من موازين القوى، ما دامت نظرية التدافع قائمة. وكلما انطوت الأيام ظهر ما يُثبتها.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5173 - الجمعة 04 نوفمبر 2016م الموافق 04 صفر 1438هـ
سياسات دول لا يقوم ولا يعدّ نجاحها إلا بما تلحقه من دمار على الشعوب والدول المستضعفة.
ثم يتحدثون عن حقوق الانسان والاخلاقيات، هو بقي شيء اسمه اخلاق في السياسة الامريكية او البريطانية؟