في وقت متزامن تقريباً، دارت مجادلات إعلامية ومجتمعية مُحتدمة في العراق والبحرين بشأن مسألتين دينيتين- سياسيتين؛ الأولى أُثيرت على إثر صدور قرار مُفاجئ لمجلس النواب العراقي يُدخل على قانون وارادات البلدية مادة تُحظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الروحية؛ لكونها مُحرّمة إسلامياً، والثانية اُثيرت في مجلس النواب البحريني إثر مقترح تقدم به نواب إسلاميون بتحريم الموسيقى برمتها جملةً وتفصيلاً، ومنع تدريسها في المدارس على رغم من تعدد الاجتهادات بصددها، ليس بين المذاهب فحسب؛ بل وداخل المذهب الواحد!
واللافت أن المشاركين في تلك المناقشات العاصفة بشأن المسألتين، ينحدرون من كل الطوائف الدينية والتيارات السياسية وبضمنها «التيار الاسلامي» نفسه، بمختلف أطيافه السياسية.
في العراق كان من التساؤلات التي طُرحت في المعركة النقاشية يتمحور بشأن سر إصدار هذا القرار في هذا التوقيت بالذات، والبلد من أقصاه إلى أدناه مشغول بأخطر قضية فساد يشهدها في تاريخه الحديث، متورطة فيها الغالبية العظمى من النواب والوزراء، وفي الوقت الذي ما تزال الانقسامات الطائفية متفجرة على أشدها، وماتزال أجزء من التراب الوطني تحت سيطرة عصابة «داعش» الإجرامية التي تقيم دويلتها «الإسلامية» المزعومة عليها، وفي الوقت الذي لا يكاد يمضي أسبوع يأمن الناس العُزّل على أرواحهم من شرورها التفجيرية المباغتة، التي تحصد أرواح المئات من الأبرياء الآمنين من رجال ونساء وشيوخ وأطفال وعشرات الجرحى، وفوق كل هذا وذاك، فإن القرار يأتي قبل وضع حد لمعاناة ملايين المواطنين من الخدمات الصحية المتردية، وانقطاعات للكهرباء والمياه عن محافظات ومناطق كثيرة مستمرة، وفيما أيضاً ملايين الشعب المنكوب تترقب بلهفة شديدة مصير معركة تحرير الموصل، وفي الوقت الذي مازال المواطن العراقي يئن أيضاً تحت وطأة الغلاء وارتفاع نسبة البطالة وتدني الأجور.
ومن أبرز معارضي القرار على المستوى القيادي الرسمي الرئيس فؤاد معصوم، ورئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، ولم يتوانَ معظم المعارضين عن توجيه التهمة إلى غالبية النواب الذين مرروا القرار بأنهم من المتورطين في الفساد، ويبتغون من ورائه التغطية على فسادهم وسرقتهم المال العام للشعب المطحون الذي أوصلهم للبرلمان.
أما في البحرين فقد اُثيرت علامة استفهام كبيرة أيضاً بشأن توقيت مقترح منع الموسيقى، بينما المواطن مازال يئن من وطأة الغلاء الفاحش، وبخاصة في السلع الأساسية كاللحوم والأسماك والدجاج والأرز والسكر والخضراوات ومشتقات الوقود، وتوقف الزيادات العامة في رواتب القطاعين العام والخاص منذ سنوات طويلة، وارتفاع الرسوم أو الضرائب العامة واستحداث الجديد منها، وفيما لاتزال البطالة متفشية في أوساط الشباب، ولا سيما الخريجين منهم، ناهيك عن الأزمة الإسكانية الخانقة، وعدم انفراج الازمة السياسية وتفاقم الحساسيات الطائفية في المجتمع، فيما النواب عاجزون في أن يكون لهم أدنى دور ملموس في حلحلة هذه الأوضاع المزرية التي تقصم ظهور جُل المواطنين، بينما كان يُنتظر الشعب من النواب في بدء فصلهم التشريعي يبشرون الشعب بتقليص امتيازاتهم الهائلة، ولو إسوة بما طبقته الحكومة من تقليص في امتيازات بعض مستويات المناصب التنفيذية العليا. وفي كلتا الحالتين البحرينية والعراقية نرى ما قام به النواب العراقيون والبحرينيون هو من صميم حقهم البرلماني، الذي لا ينبغي أن ينازعهم فيه أحد، لكن يظل السؤال في المقابل: هل يمكن أسلمة مجتمع بلد ما وجهازه الحكومي في ظل تعقيدات عصرنا دفعة واحدة في بلد متعدد الثقافات والتيارات السياسية والطوائف الدينية، وبضمنها غير الإسلامية، من خلال العمل البرلماني؟ وهل خلا هذان البلدان من كل المظاهر المنافية للإسلام، ولم يتبقَ سوى مشكلتي المشروبات الروحية والموسيقى؟ وإذا كانت كلتاهما من المفاسد فهل التعجيل بحظرهما يشكل أولوية تعلو على الفساد المالي والإداري وتفاقم الأحوال المعيشية؟ ثم ما قيمة تباهينا أمام العالم بوجود ممثلين للمذاهب والقوميات والديانات الاخرى أعضاء في كلا البرلمانين العراقي والبحريني (غرفته المعينة) ونحن نود أن نفرض تطبيق القانون إلزاماً على الجميع، من أتباع الديانات والمذاهب والقوميات الاخرى دون مراعاة لخصوصياتها الدينية، وأهمية ان نجد معها ولو في الظروف العصيبة الراهنة القواسم الآنية المشتركة الأكثر إلحاحاً.
يبدو لي أن واحداً من الأخطاء الجسيمة التي ما برحت التيارات أو الأحزاب العربية غير الحاكمة والممثلة في البرلمانات العربية تقع فيها، وليس التيار الإسلامي وحده، غياب ترتيب الأولويات الأكثر إلحاحاً، عند سعيها النضالي أو الجهادي لتحقيق أفكارها وشعاراتها الإيديولوجية، ومن ثم عدم التفريق بين الأهداف البعيدة المدى، والأهداف القصيرة المدى الأكثر إلحاحاً، فنجدها تقحم أجندات ومطالب يمكن تأجيلها مرحلياً على حساب قضايا آنية، وكأنها بذلك في برلمان يتبع نظام إسلامي هي تحكمه ومفصّل بالكامل على مقاس ايديولوجيتها الخاصة، وليس في برلمان تعددي يمثل شعبا متعدد المشارب والأفكار والثقافات والأديان والطوائف والقوميات.
ومن عجبٍ أن شخصيتين إسلاميتين كبيرتين أدركتا التعقيدات الموضوعية التاريخية لهذه الإشكالية في المرحلة الراهنة، وكلتاهما تحظيان بإعجاب منقطع النظير من قوى وحركات إسلامية كثيرة في عالمنا العربي وبخاصة «الإخوان المسلمين»، ألا هما التونسي راشد الغنوشي والرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الذي بعد وصوله للحكم أدى اليمين الدستوري باحترام نظام الدولة العلماني، دون أن يثير ذلك حفيظة تلك القوى الإسلامية في عالمنا العربي، وكلاهما (الغنوشي وأردوغان)، يريان أن مثل هذه القضايا لا تُحل إلا عبر تدرج مرحلي تاريخي، وهو النهج الصحيح الذي ينبغي في تقديرنا أن يتبعه كل تيار له تمثيل في البرلمان، يطمح على المدى البعيد رؤية مبادئه الايديولوجية مُطبقة على أرض الواقع، وهو حقُ طبيعي لكل التيارات.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5173 - الجمعة 04 نوفمبر 2016م الموافق 04 صفر 1438هـ
احسنت استاذ رضي .. مقال فب الصميم !