أعلنت الولايات المتحدة تحولا جذريا في استراتيجيتها في عهد الرئيس الحالي جورج بوش من سياسة الردع التي ميزت فترة الحرب الباردة وما بعدها، إلى سياسة الهيمنة الشاملة. وقدم البيت الأبيض إلى الكونغرس تقريرا عن «استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة» في شهر سبتمبر /ايلول الجاري طبقا لما يتطلبه القانون في محاولة لحسم الجدل الذي تثيره سياسة حكومة بوش منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. وهو أول توضيح شامل لسياسة حكومة بوش الخارجية من استراتيجية الدفاع إلى الانحباس الحراري العالمي.
وعلى رغم أن التقرير يقول إن الولايات المتحدة ستستخدم تفوقها العسكري الهائل وقوتها الاقتصادية الضخمة لتنفيذ سياستها فهي لن تتراجع عن تنفيذ حروبها بمفردها بدعوى ممارسة حق الدفاع عن النفس بشن هجمات وقائية ضد الدول التي يمكن أن تتعاون مع ما تسميه واشنطن «المنظمات الإرهابية». وهذا يعني إن استراتيجية الأمن القومي تدعو إلى شن «حرب وقائية» في كل مكان على الشبهة.
وتضع مقدمة التقرير، الذي جاء في 33 صفحة، طبقة رقيقة من السكر على الاستراتيجية العدوانية في محاولة لطمأنة العالم المتخوف من سطوة القوة العسكرية العظمى الوحيدة بعد انتهاء الحرب الباردة، إذ تقول إن الولايات المتحدة لن تستخدم قوتها للحصول على مكاسب أحادية وستسعى بدلا من ذلك إلى إيجاد توازن قوى لمصلحة الحرية الإنسانية. لكن جوهر التقرير يؤكد أن الولايات المتحدة ستستخدم قوتها لإقناع أو إرغام الدول على عدم مساعدة الأنشطة المناهضة للولايات المتحدة التي تطلق عليها «الإرهاب» وخصوصا في العالم الإسلامي.
وكان كبار مساعدي الرئيس بوش الذين يشكلون طاقم السياسة الخارجية والأمن القومي عكفوا منذ عدة أشهر على صياغة خطة «الهجمات الوقائية» ضد الدول والجماعات التي تطور أسلحة دمار شامل، لتصبح هذه الخطة بمثابة استراتيجية أمن للولايات المتحدة. وفي إطار هذه الخطة سيكون العراق على رأس قائمة الدول والجماعات المستهدفة وخصوصا بعد أن قررت حكومة الرئيس بوش ضرورة إحداث تغيير في النظام في بغداد.
وتعتبر هذه الخطة امتدادا لاستراتيجية الحرب الباردة لكنها في الوقت نفسه تبتعد عن ركائز تلك الحرب في الاحتواء والردع، باتجاه سياسة تؤيد الهجمات، وستكون جزءا من أول «استراتيجية للأمن القومي»، وتتضمن خيارات تضع أساسا لمنع الدول من الحصول على أسلحة دمار شامل أو رعاية النشاطات المناهضة للولايات المتحدة التي تسميها واشنطن «الإرهاب».
وقد اعتبر عدد من مساعدي بوش الخيارات الجديدة بأنها انتقال من عمل عسكري مباشر تقوم به الولايات المتحدة إلى عمليات مشتركة مع روسيا وقوى أخرى ضد أهداف محتملة تضم دولا صغيرة توفر الملاذ للجماعات المناهضة والتي قد تمارس عملا مباشرا ضد واشنطن.
وقال مسئول أميركي إن الصيغة التي تم تبنيها رسميا تضيف ولأول مرة تعبيرات «التدخل المسبق الوقائي» و«التدخل الدفاعي» كخيارات رسمية لمهاجمة دول معادية أو جماعات تبدو عازمة على استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة. وتؤيد السياسة الجديدة شن هجمات مسبقة بالأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية ضد من تسميهم واشنطن «الإرهابيين والدول المعادية».
وكان الرئيس الأميركي ألمح إلى التوجه الاستراتيجي الجديد الذي بدئ يطلق عليه في واشنطن «مبدأ بوش» لأول مرة في خطابه عن حال الاتحاد في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، عندما وصف العراق وإيران وكوريا الشمالية بأنها «محور الشر» وحذر من أنه لن يسمح لها بتهديد الولايات المتحدة بأسلحة دمار شامل، لكنه تحدث عنه صراحة لأول مرة في خطاب ألقاه في حفل تخرج لطلبة بالأكاديمية العسكرية الأميركية في الأول من شهر يونيو/ حزيران الماضي في ويست بوينت بولاية نيويورك، إذ قال: «إن قادة المستقبل العسكريين الأميركيين يجب أن يكونوا مستعدين لتوجيه ضربات وقائية في الحرب على الإرهاب وللتعامل مع تحذيرات غير مسبوقة من إمكان حدوث هجمات كيماوية أو بيولوجية أو نووية من «الإرهابيين والطغاة».
وقال مسئولون أميركيون ساهموا بوضع الخطوط الرئيسية للاستراتيجية الجديدة، إن الولايات المتحدة اضطرت للذهاب إلى أبعد من الردع بعد هجمات 11 سبتمبر نظرا إلى المخاطر التي تشكلها الجماعات الإرهابية والدول المعادية التي تؤيدها. وقال مسئول أميركي كبير إن «طبيعة العدو تغيرت، وطبيعة المخاطر تغيرت ولذلك يجب أن يختلف الرد»، وأضاف أن تبني حكومة بوش هذا المبدأ كجزء من استراتيجية الأمن القومي سيجبر الجيش الأميركي وأجهزة المخابرات على تنفيذ بعض أكبر التغييرات في تاريخها.
وكان هذا الموضوع قد أثار مداولات ساخنة داخل الحكومة الأميركية خصوصا داخل وزارة الدفاع (البنتاغون) ولدى الاستراتيجيين العسكريين وبين المعلقين المعنيين بشئون الدفاع عن التغييرات الضرورية وما إذا كان مبدأ الهجمات الوقائية يعتبر مبدأ واقعيا، وجدواه وقدرته على ردع الشبكات الإرهابية. وما إذا كان ينطوي على أية حكمة ضد شبكات إرهابية وهمية أو مرافق لخزن الأسلحة.
وهناك اتفاق عام على أن تبني مبدأ الهجمات الوقائية سيكون تحولا جذريا عن سياسات الردع والاحتواء التي استمرت لمدة نصف قرن، والمبنية على فكرة أن الخصم لن يهاجم الولايات المتحدة لأنه يعلم أن الرد سيكون انتقاميا كاسحا ومؤكدا. ويؤكد محللون أن الوثيقة الجديدة تعزز من لجوء الولايات المتحدة إلى استعراض عضلاتها بشكل عدواني لصالح أمنها القومي والذي يفوق كثيرا ما كان سائدا منذ عهد رونالد ريغان، الذي ينتمي إلى مخلفاته معظم صقور حكومة بوش. فهي تؤكد تهميش معظم اتفاقات حظر انتشار الأسلحة غير التقليدية بل والانسحاب منها مثل اتفاق حظر انتشار الصواريخ الباليستية مع موسكو واتفاق كيوتو للبيئة.
وعلى رغم أن التقرير يؤكد أن الرئيس لا ينوي أن يسمح لأية قوة أجنبية بردم الهوة الكبيرة بينها وبين الولايات المتحدة، فإنه يؤكد استخدام المساعدات الخارجية والدبلوماسية والمؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتحقيق الانتصار في معركة القيم والأفكار الدائرة بما في ذلك المعركة من أجل مستقبل العالم الإسلامي. فاستراتيجية الأمن القومي الأميركية تدعو إلى دعم الحكومات المعتدلة والعصرية لضمان عدم ظهور الأيديولوجيات التي تعزز الإرهاب، وتشدد على عدم الاعتماد كليا على الموقف الرجعي وعلى التحرك ضد الأخطار قبل أن تكتمل.
ويقول المسئولون الأميركيون الذين قاموا بصياغة المبدأ الجديد ومن بينهم مستشارة بوش للأمن القومي كوندوليسا رايس، إن الولايات المتحدة اضطرت إلى الانتقال إلى ما وراء الردع منذ 11 سبتمبر بسبب التهديد الذي شكلته الجماعات الإرهابية والدول المعادية التي تساندها. وقالوا إن «طبيعة العدو تغيرت وطبيعة التهديد تغيرت ولذلك فإن الرد ينبغي أن يتغير». وأشار مسئول أميركي كبير آخر إلى أن 'الإرهابيين' ليس لديهم أرض يدافعون عنها ومن غير الواضح كيفية ردع هجوم كالذي تعرضنا له».
وقد أثار هذا المبدأ الجديد قلقا داخل أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو). فقد قال وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد أمام اجتماع للحلف يوم العاشر من شهر يونيو الماضي إنه لا يجب عليهم الانتظار لرؤية دليل مطلق قبل الرد على الجماعات الإرهابية التي تهدد الدول بالأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية. غير أن الأمين العام للحلف جورج روبرتسون رد على ذلك مؤكدا إن «الناتو سيبقى حلفا دفاعيا، وينبغي ألا نذهب لنفتش عن مشكلات لحلها».
ويقول بعض المحللين المعنيين بشئون الدفاع إن الهجمات الوقائية تحمل في طياتها خطر خلق أزمة وتصعيدها سريعا بزيادة الضغط على الجانبين بالتصرف بشكل أسرع مما يجبرهما - على مسرح لعبة الشطرنج النووية - على استخدام هذه الأسلحة، استنادا إلى مبدأ «استخدمها أو افقدها».
ويقول المحلل الدفاعي الأميركي هارلان أولمان «إن الهجمات الوقائية جذابة كما تبدو على السطح ولكن عندما يتعمق المرء ستصبح معقدة وخطرة أكثر فأكثر».
كما أن كثيرا من منتقدي «مبدأ بوش» الجديد يقولون إن هجوما غير متقن لنسف أسلحة كيماوية وبيولوجية ومواد إشعاعية في الجو سينطوي على مجازفة تهدد بتلويث الغلاف الجوي وقتل آلاف الناس ليس في البلد المستهدف فحسب بل أيضا في البلدان المجاورة.
وحتى مؤيدي الهجمات الوقائية داخل الحكومة الأميركية وخارجها يعترفون أن المبدأ الاستراتيجي الأكثر هجومية يتطلب معلومات استخبارية أفضل بكثير ومختلفة إلى حد كبير عما تجمعه الولايات المتحدة، في الوقت الذي يسود فيه شك بقدرات وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) على القيام بواجباتهما الحالية على أكمل وجه.
خيارات جديدة وأسلحة حديثة
وينشغل علماء الدفاع ومخططو الحرب الأميركيين بتطوير أسلحة وقدرات جديدة تعطي الرئيس بوش خيارات مختلفة عن تلك التي كانت موجودة في الماضي.
فهناك وكالة في البنتاغون تعنى بتقليل الأخطار، أنشئت في العام 1998 بميزانية 1,1 مليار دولار لحصر أسلحة الدمار الشامل. ويدرس علماؤها الآن كيفية مهاجمة وتدمير المخابئ المدفونة في أعماق بعيدة بقنابل تقليدية متقدمة أو بأسلحة نووية. وتدرس تلك الوكالة أيضا متفجرات تقليدية برؤوس صلبة تستطيع اختراق مخابئ أمنية وتدمير أسلحة بيولوجية بدرجة الحرارة العالية التي تسببها تلك المتفجرات.
وقد رفض رامسفيلد في تصريحات له في شهر يونيو الماضي مناقشة تلك السياسة. وعند سؤاله إذا ما كانت الولايات المتحدة تدرس اتخاذ إجراءات مسبقة ضد أسلحة الدمار الشامل الموجودة لدى دول أخرى قال: لماذا عليّ أن أجيب عن هذا السؤال إذا كنا ندرسه؟
واستراتيجية الأمن القومي الجديدة للولايات المتحدة كما طرحها بوش تبتعد عن آخر استراتيجية للأمن القومي كان الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون قدمها إلى الكونغرس مع نهاية العام 1999. إذ تعاملت تلك الاستراتيجية بشكل مطول مع تكتيكات لمنع الانهيارات المالية التي تهدد الاقتصاديات في آسيا وروسيا. فبينما استراتيجية بوش تحث دول أخرى على تبني فلسفته الاقتصادية، بدءا من أسعار ضريبية منخفضة، فإن استراتيجية كلينتون اعتمدت بشكل كبير على تعزيز تنفيذ أو تعديل سلسلة من المعاهدات الدولية، من معاهدة العام 1972 المضادة للصواريخ الباليستية إلى حظر التجارب النووية الشاملة إلى بروتوكول كيوتو عن البيئة، أما بوش فقد تخلى عن معظم الجهود التي بذلها كلينتون في سنوات حكمه الثماني، بطريقة تبدو فيها حكومة بوش وكأنها تعمل على تصفية تركة كلينتون والديمقراطيين.
وزارة الأمن الداخلي
ويترافق مع «مبدأ بوش» في الأمن الخارجي تقديم الرئيس الأميركي اقتراحا لخطة أمنية تقضي بتدعيم قدرات تطبيق القانون والدفاع المدني تحت وزارة جديدة هي وزارة الأمن الداخلي، فاجأت أعضاء الكونغرس من الجمهوريين والديمقراطيين وخصوصا عندما علموا أن الخطة أشبه بفكرة قديمة منذ تسع سنوات وضعت في عقد حكومة الرئيس السابق بيل كلينتون، واقترحت توسيعا مهما لسلطات الشرطة المحلية.
وبينما قد لا تواجه خطة بوش للأمن الخارجي صعوبات في الداخل لأنها لا تحتاج إلى موافقة الكونغرس، فإن خطة الأمن الداخلي تواجه صعوبات سياسية لأنها قد تثير الخلاقات السياسية بين أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس والذي تعد موافقته شرطا للمضي في تلك المقترحات.
وموافقة الكونغرس على الاقتراح لا تضمن نجاحه في منع الهجمات الإرهابية لأن مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) ووكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) لن يتم ضمهما إلى الوزارة الجديدة على رغم أن مهامهما مكافحة الإرهاب، الأمر الذي يعني عدم وجود قنوات اتصال بين الهيئات العاملة في ذلك المجال وبعضها بعضا كما حدث قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبرالماضي.
ومن المقترح أن تبلغ الميزانية السنوية للوزارة الجديدة 37,4 مليار دولار بينما سيعمل بها 196 ألف شخص من أكثر من 12 وكالة فيدرالية من بينها إدارة الهجرة والتجنيس، وإدارة أمن النقل وخفر السواحل، والمخابرات الداخلية وغيرها.
ويواصل الرئيس بوش منذ اليوم السابع من شهر يونيو الماضي اللقاء مع أبرز أعضاء الكونغرس الذين تعهدوا بتأييده. في حين دعا زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب ريتشارد غيبهارت المجلسين - النواب والشيوخ - إلى الموافقة على قانون إنشاء الوزارة بحلول الذكرى السنوية الأولى للهجمات إلا أن ذلك لم يتحقق بعد.
وبشكل عام ينادي البعض بإصلاح إدارة الهجرة سواء كانت هيئة منفصلة أو تابعة لوزارة الأمن الداخلي في حين يرى البعض الآخر أنه من الخطأ أن تتولى الوزارة المقترحة قضايا حساسة مثل اللجوء السياسي.
وقال العضو الجمهوري في مجلس النواب الأميركي رون بول إنه يعتقد أن بوش يفعل ما يعتقد أنه الأفضل «ولكنني أعتقد أن وجود بيروقراطية أكبر لن يقدم الكثير من المساعدة، فلدينا بالفعل بيروقراطية كبيرة جدا وخارجة عن نطاق السيطرة بحيث لا تستطيع الاتصال ببعضها بعضا وإن إضافة المزيد من ذلك وإعطاءها مزيدا من المال لن يكون عنصرا مساعدا»
العدد 19 - الثلثاء 24 سبتمبر 2002م الموافق 17 رجب 1423هـ