حين دعا جورج بوش الأب الدول العربية في العام 1990 إلى الدخول في «التحالف الدولي» لإخراج صدام حسين من الكويت كانت الصورة مختلفة عن صورة الوضع القائم حاليا.
آنذاك كانت كل العناصر المطلوبة لتركيب التحالف الدولي موجودة. والمعارض للحملة كان يملك بعض الشكوك لا تدعمها عناصر ثابتة ومقنعة إلاّ ملاحظات عابرة وليست قوية. ومعظم ملاحظات القوى المعارضة تركزت على تخمينات لها صلة بالتاريخ وتحديدا تاريخ الوعود التي سبق أن أعطيت للعرب في مطلع القرن العشرين عشية الحرب العالمية الأولى. كانت الوعود واضحة: قفوا معنا ضد السلطنة العثمانية ونحن على استعداد لمساعدتكم على تشكيل دولة عربية واحدة ومستقلة تنعم بالازدهار والتقدم. ووقف العرب مع الغرب في حربه العالمية الأولى وانهارت (تركيا) وتفككت السلطنة وكانت النتيجة سحب الوعود لا بل القول ان تلك الوعود لم تعط أصلا. وقيل أيضا إن بعض زعماء العرب فهم بعض الكلام المعسول، الذي يقال عادة للمجاملة وكسب الوقت، انه رزمة وعود ستعطى بينما هو مجرد كلام في كلام. وباقي القصة معروفة ومكرورة.
لم يكن أمام القوى المعارضة للحملة الدولية في العام 1990 سوى هذا المثال وغيره من أمثلة تاريخية لها صلة بالوعود وبعد أن تنتهي القصة (المشكلة المحددة) يتغير الكلام وتبدأ الوقائع تعاكس كل ما قيل أو ما يمكن أن يفهم بأنه قيل... واخرج صدام وحطم العراق وعاد أهل الكويت إلى بلادهم. وانتهى كلام العسل ليبدأ الواقع المر. ما قيل في العام 1990 قيل قبله مرارا منذ العام 1914. وما تم تجاهله ونسيانه سابقا تكرر لاحقا. بل بات الوضع أسوأ.
مع ذلك يمكن القول ان صورة العالم في العام 1990 - 1991 تختلف عن صورته الآن. آنذاك كان العالم يمر في مرحلة انتقالية من حقبة «الحرب الباردة» إلى حقبة جديدة أطلق عليها لاحقا «السلم البارد». وقيل للدول العربية هذا الكلام وأكثر منه. قيل لها هذه فرصة العرب التاريخية. فإذا وقفت الدول العربية خارج التحالف الدولي ستخرج من التاريخ، وإذا شاركت بمالها ورجالها في الحملة الدولية فإنها ستصبح من العناصر الفاعلة في رسم المستقبل وصورته. فهناك العولمة، وهناك النظام الدولي الجديد، وهناك العصر الديمقراطي الذي سيسود البشرية، وهناك وهناك... وعلى الدول العربية أن تستغل الفرصة وتكسب نفسها وتحجز مكانها في عالم الغد حتى لا تبقى أسيرة الماضي ومخاوفه وهواجسه.
وحين أشير إلى وعد بلفور، وسايكس بيكو، ونكبة فلسطين، والقرارات الدولية، وعدم استجابة حكومة اسحق شامير (آنذاك) لقرارات الأمم المتحدة... قيل انسوا الماضي وانظروا إلى المستقبل. الآن الوضع مختلف عن ظروف الحرب العالمية الأولى وعن أجواء الحرب العالمية الثانية. إسرائيل دورها مؤجل وسيأتي بعد أن تقفوا معنا ضد صدام. وهكذا كان. وكان يا ما كان.
... الآن، وهذا هو الأدهى و«بيت القصيد» تتكرر المسألة مع أن صورة العالم غير تلك التي كانت متوقعة له في العام 1990 - 1991. يتكرر الكلام ذاته ولكن بطريقة تحمل الوعد والوعيد، مع أن أجزاء الصورة غير واضحة وعناصرها ليست مشابهة لذاك المشهد الذي افتعله صدام حسين صباح أغسطس/آب 1990.
حتى الكلام المعسول تخلت عنه الدبلوماسية الأميركية. بل اتجهت ادارة بوش الابن إلى النيل أحيانا من الإسلام والمسلمين أو تقديم النصائح المسمومة كما فعلت كوندوليزا رايس (مستشارة الأمن القومي لبوش الابن) في تصريحاتها الأخيرة. والسؤال: هل تدفع الدول العربية الآن ثمن موقفها المؤيد للتحالف الدولي في العام 1990 وأنها مطالبة بتسديد «فاتورة» متأخرة عن موعدها، أم أنها مطالبة بالدفع من دون سبب ولا ذريعة؟
اختلف العالم كثيرا من العام 1990 إلى العام 2002، إلا أن القوانين الثابتة لم تتغير... أولها وآخرها «السمكة الكبيرة تأكل الصغيرة»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 19 - الثلثاء 24 سبتمبر 2002م الموافق 17 رجب 1423هـ