لعلّ مشروع «بحرنة الوظائف» أكثر مشروع تحدثت عنه الحكومة وتحدث عنه الجميع منذ استقلال البحرين في العام 1971. فمنذ السبعينات كان التصور المطروح هو تدريب المواطنين وإحلالهم تدريجيا بدل الوافدين. ويتضمن مثل هذا المشروع تخطيطا بعيد الأمل لسوق العمل لمعرفة الاحتياجات المستقبلية وحجمها وبالتالي إعداد المناهج التربوية والتدريبية المناسبة لها.
وعندما فشل مشروع «بحرنة الوظائف» تحوّل من خطة تنموية إلى خطاب سياسي تحشيدي، تستخدمه المعارضة بصورة فاعلة للإشارة إلى الفشل الذي مُنيت به محاولات الحكومة في هذا المجال.
ومهما كان إخلاص القائمين على «البحرنة»، فإن المشروع الاقتصادي ـ السياسي الذي رفعت رايته على مدى الثلاثين سنة الماضية هو من أكثر المشروعات فشلا على الإطلاق. ولعل أوضح الأدلة على فشل البحرنة هو استمرار الحاجة إلى استقدام الخبرات من الخارج في مجالات كان يجب علينا أن نعلن الاكتفاء الذاتي فيها منذ سنوات كثيرة. ولذلك يحق لنا أن نتساءل بعد ثلاثين عاما عن مشروع بحرنة الوظائف: أية وظائف؟
البحرين كان من المفترض أن تستلم مواقع ريادية في مجالات اقتصادية مهمة، فمثلا عندما شُيّد جسر البحرين ـ السعودية، ثاني أكبر جسر من نوعه في العالم، كان بالإمكان تخريج أفضل المهندسين البحرينيين الذين يستطيعون تصميم وتشييد الجسور الأخرى في الفترات اللاحقة. فعلى رغم استخدام أفضل الطرق الهندسية، بقيت التكنولوجيا بيد الشركة الأجنبية ولم تنتقل إلى البحرين. ولو أنها انتقلت بصورة جيدة لاستطاع الاقتصاد الوطني الاستفادة من تلك الخبرات الهندسية الراقية، فبالإضافة إلى الجسور الصغرى، هناك الآن مشروع جسر البحرين ـ قطر، وإقامة هذا الجسر المهم بإمكانه توفير أفضل الفرص للبحرنة.
ثم إن هناك الدفن المستمر للبحر، والتكنولوجيا المستخدمة آتية أيضا من دول متطورة مثل هولندا، وبالإمكان أيضا بحرنة هذا القطاع الذي يوفر دخلا عاليا للشركات المختصة.
مشروعات الجسور والدفن بإمكانها لوحدها خلق فرص مهنية متطورة وطنية يمكن تصديرها إلى الدول المجاورة... ولو سألنا أنفسنا عن عدد الاختصاصيين البحرينيين في هذا المجال، وحجم مشاركاتهم في الاقتصاد، فسنجد صعوبة في الإجابة عن سؤال بسيط: لماذا لم نستفد من فرص تاريخية كالتي توافرت لنا؟ ما هي المجالات الراقية اقتصاديا التي حصلنا عليها لنستطيع مثلا أن نعتمد على بحرينيين في تصميم وهندسة مشروعات كبرى مثل مشروع «أمواج»؟ وما هي القدرات البحرينية التي تستطيع تحديد أرضية البحر، كمية الطين والصخر الموجودة فيه، مقدار الضغط المطلوب وكمية الرمل المطلوبة لدفن تلك المنطقة، مسار المياه وقوته في الشتاء والصيف؟ كمية تآكل الرمل على حدود الدفن إلخ...؟ أين هي القدرات البحرينية للقيام بكل هذه المهمات؟ لماذا مازلنا بعد كل الدفن الذي قمنا به بحاجة إلى شركات أجنبية متخصصة (ومكلفة جدا) للقيام بهذه الأنشطة الهندسية؟
أين هي المختبرات التخصصية لمواكبة الطفرة في المجمعات والأسواق والبرادات الكبرى؟ أين تلك المختبرات التي تفحص كل قطعة وكل سلعة تباع في البحرين؟ كيف نعرف أن محتويات السلعة حقيقية وأن صلاحيتها صحيحة؟ لماذا لا يكون لدينا مثل المختبر الذي يذهب إليه أصحاب الذهب للتأكد من أن هذا الذهب مغشوش أم لا؟ أوليس لنا الحق في أن نعرف السلع التي نستهلكها يوميا، هل هي فاسدة أم صالحة؟ وهل هي كما يدعي صانعها؟
أين الخبراء في البيئة وتقنياتها المتطورة، وخصوصا أننا نواجه أكبر التحديات لو قارنا وضعنا بالمناطق الأخرى في العالم؟... فكل مصادر التلوث ومخاطره موجودة لدينا بحرا وجوا وأرضا... فأين هي الخبرات البحرينية في هذا المجال؟ أين الخبرات البحرينية في تكنولوجيا المياه والتبريد المتطور والتهوية المتطورة والطاقة؟ لماذا مازلنا نستورد الخبرات المتطورة بأعلى الأسعار في كل المجالات، وفي الوقت ذاته نستورد أرخص الأيدي العاملة؟... وبين الخبرات المتطورة (التي لم نستطع بحرنتها) والأعمال اليدوية الرخيصة جدا (التي لا يستطيع المواطن منافسة «الفري يزا» والأيدي العاملة من الدول الفقيرة فيها) تضيع فرص البحرنة الواحدة تلو الأخرى.
«بحرنة الأعمال» تبقى سياسة حسنة، وتبقى شعار السياسة للتدشين في أي وقت لتحريك الوضع إيجابا أو سلبا، ولكن على مستوى البرامج العملية فإن الوصول إلى نجوم السماء أقرب
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 19 - الثلثاء 24 سبتمبر 2002م الموافق 17 رجب 1423هـ