في هذا العالم عجائب لا تنتهي. كل زمن له عجائبه. أحفاد مَنْ كانوا يركبون الجِمال للذهاب إلى الحج صاروا يركبون الطائرات. ومَنْ كانوا يركبون البغال والحمير كي يصلوا إلى مكان بعيد صاروا يركبون السيارات. ومَنْ كان أجدادهم يتركون فاضل غذائهم في سلَّة مُدَلاة على الجدار كي يأكلوه متعفناً عند العشاء صاروا يحفظونه في المبردات الكهربائية، ليأكلوه بعد يومين أو أزيد ساخناً بعد تحميته في جهاز خاص! لقد تغيّر الحال. لكن هل الآلة تصلح لكل شيء في حياة البشر؟!
في أحوالنا نحن والأصدقاء في شئون الكتابة والصحافة حديث مشابه لكنه مُقيّد. فالذين اعتادوا اليوم من الكُتَّاب والصحافيين أن يخطّوا كل شيء بالآلة وأزرار الحواسيب (والحقيقة أن الجميع هكذا) يلقون صعوبة في الإمساك بالقلم ليكتبوا 500 كلمة على الورق يدوياً. وقد واجهتنا هذه المشكلة فعلاً عندما كنا نقدِّم الامتحانات الجامعية. كان السابقون من الصحافيين يكتبون موادهم بالقلم والورق، ويُسلّمونها باليد. أما الآن، فقد بات كل شيء يُكتَب ويُرسل بالبريد الإلكتروني، ولا يُطبع إلاّ تالياً. لكن كل هذا التطور لا دخل له بدور الكاتب وإبداعه في المكتوب.
قبل أيام استوقفني خبر نشرته صحيفة الـ Mirror البريطانية كتبه جون دين يقول فيه بأن ما يُعَد له الآن هو صناعة صحافيين آليين (Robot journalists) مهمتهم كتابة الأخبار السياسية والرياضية وأخبار وكالات الأنباء في كل من بريطانيا وأيرلندا. وسيبدأون باكورة أعمالهم في الأشهر المقبلة من خلال تغطية انتخابات نقابة الصحافيين وأخبار رياضية تشمل كرة القدم.
القائمون على ذلك الاختراع قالوا بأنهم وضعوا في تلك الأجهزة «الصحافية» نظاماً آلياً في التحكم بهدف إنتاج نصوص دقيقة تفوق ما يُنتجه الصحافيون الآدميون، وأنهم سيقدمون مستوى أعلى في التقارير القصيرة وأخبار أخرى. الغريب أن مثل هذه الأمنية سوَّق لها بيت كليفتون وهو رئيس تحرير النقابة على رغم وصفه صحافييه بالرائعين الذين لن يُستَبدلوا!
الحقيقة أن هذا الأمر غريب جداً! لا أعلم ما هو المستوى الذي سيُعطى لأولئك «الصحافيين الآليين» كي يكتبوا خبراً أو تقريراً بشأن قضية ما، ولا الكيفية التي سيُنفذون بها موادهم، لكننا نناقش ما تمّ إعلانه. فالذي يُعرَف في عالم الصحافة أن الكتابة فيها هي «روح» قبل أن تكون «جسدا». روح ترفدها لغة وثقافة ومعلومات وليس قوالب جاهزة توضع في سياقات مكررة تحيل النص إلى جثة هادمة، فلا يكون له أدنى تأثير على القارئ كجهة متلقية...
هل تتذكرون ما كان يقوله الشاعر الأميركي روبرت فروست؟ كان يقول: «إذا لم يذرف الكاتب العَبَرات فلن يذرفها القارئ، وإن لم يتفاجأ الكاتب فإن القارئ لن يتفاجأ». هذه أشياء لا علاقة لها بأي أمر ميكانيكي، بل بمشاعر واختيارات لغوية وثقافية ومعلوماتية محددة، تجعل الخبر في مسار متميز وذي نكهة. حتى أخبار العلاقات العامة تحتاج أحياناً إلى نَفَس ما يحاكي المؤسسة وتوجهاتها فكيف بالخبر المستقل الذي يُراد له أن يكون مؤثراً ويحمل رسالة إلى أطراف محددة.
الصحافي البريطاني المعروف ألفريد هارمزوورث عندما «ابتدع» فكرة خبر الـ 250 كلمة قبل 100 سنة من الآن، محاكاة منه مع السرعة القادمة إلى أوروبا من أميركا، جعل أداته صحافيين يمتلكون حساً وقلماً سيالاً لأنه يُدرك بأن الكتابة لها ما لها، وأن الاجتهاد لا يجوز إلاّ في شئونها الفنية واللوجستية، أما وضع الكلمات وتنقيطها وفتح الجمل بها وإلى ما ترمي فهي مسئولية بشرية بامتياز.
في أحد النقاشات التي أدارها السير دنيس هاملتون الذي كان يرأس مجلس إدارة صحف التايمس ووردت في كتاب «كلام في السياسة»، قال الصحافي فرانك جايلز الذي رَأَسَ في فترة ما تحرير صحيفة «الصنداي تايمز»: إن «الومضة السريعة الآن هي للصورة وليس الكلمة، ذلك أن أيّ مهتم بالشأن العام سيُتابع الخبر صوراً متلاحقة على الشاشات المضيئة، لكنه يريد من الكلمة أن تذهب إلى ما وراء الصورة وأن تقول له على مَهل ما الذي يجري؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومَنْ؟ وأين؟ ومتى؟. ثم إن الكلمة في جريدة إنما هي حكاية وتفصيل ما وراء الخبر تروي ما لا تستطيع الصور أن تصفه وخصوصاً مع الدخائل والمشاعر». هذه هي الحقيقة.
أتذكر بأن الكاتب الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل كَتَبَ مرة أنه حضر دورة دراسية في كلية الصحافة بجامعة نيويورك حاضَرَ فيها أستاذ جامعي. وقد نصحهم ذلك الأستاذ قائلاً «إذا أردتم أن يكون الخبر مستوفياً قيمته فعليكم بالأجزاء الخمسة فيه: الغموض والجريمة والجنس والملكية والدّين. ثم كتب لهم هذا النموذج الخبري: «يا إلهي... الملكة حامل فمن الذي فعلها؟» متضمناً تلك الأجزاء بصورة مختصرة جداً.
تُرى ما الذي يمكن أن يفعله صحافي آلي كي يستطيع أن يُنتج لنا خبراً يتضمن تلك الأفكار الأساسية؟ لا شيء! ثم إن المجتمع بكل ما فيه من ميول واتجاهات وغرائز وتدافع وبالتالي أحداث يحتاج إلى «جزء نابض» منه يستطيع أن يواكب ويشعر ويربط ويستنتج ويقفل ما سجّله. فالكتابة والصحافة قيم تحتاج إلى لغة عالية تقدمها بأفضل شكل للمتلقين.
الصحافة والكتابة التي قَصَدَها روبرت براوننغ وهو شاعر، وولجها جوناثان سويفت وهو سياسي، وتوماس بين وهو مخترع وجورج كريستوف لشتنبيرغ وهو فيزيائي وفولتير وهو فيلسوف لا يمكن أن تتناولها روبتات آلية مُسيَّرة، وإلاّ أصبحت بلا قيمة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5171 - الأربعاء 02 نوفمبر 2016م الموافق 02 صفر 1438هـ
أخي محمد،
أعتقد وأن لم تخني الذاكرة بأن هؤلاء الصحافيين اللآليين والذين كا ذكرت أنت أيضاً في الخبر سيتم تكليفهم بعمل نوع معين من الأخبار (لا المقالات) وخصوصاً السياسية (كونها نقل للأخبار فقط) والرياضية ( كونها تذكر النتائج والأرقام) وهي أشياء يمكن أتمتتها ولو من خلال جمع المعطيات من خلال (أنسان - مدخل للبيانات) ومن ثم تكون هناك قوالب خبرية جاهزة يمكن من خلالها عمل دفق أخباري من هذا النوع الذي لا يتطلب عنصراً بشرياً،ط فيما يتم أسناد أنواع الكتابة الصحافية الأخرى للكوادر البشرية متفرغة كل بتخصصه.
((القائمون على ذلك الاختراع قالوا بأنهم وضعوا في تلك الأجهزة الصحافية نظاماً آلياً في التحكم بهدف إنتاج نصوص دقيقة تفوق ما يُنتجه الصحافيون الآدميون))
(لا تستمغرب) كلمه مشهوره عندنا في المنطقه الغربيه , الصحفيون الآليون موجودين من قديم الزمن , حتى الكثير من الاحاديث النبويه قالها صحفيو ريبوت . ما زال صداها موجود تسمعها اسماع ريبوت حمقاء .(ليس عند فئه معينه فقط عند الكل )
يفوتك من الكذاب صدق كثير وهي مقولة مصداق لما قاله المقبور صدّام حسين وكانت صحيحة وهي تختص ببعض بني البشر الذين مثلهم مثل تلفون الشارع تدبّ فيه فلوس يشتغل ما تدبّ فيه فلوس يبند .
هذا حال الكثير من الصحفيين خاصة العرب في هذا الزمن اصبحت مواقفهم مرهونة بالأموال التي تدفع لهم
مع الأسف البعض لا يكلف نفسه قراءة المقال ويكتفي بالعنوان وهو ما يجعله في واد آخر