في المراحل الأول من حياتي الدبلوماسية، وتحديدا في مبنى الأمم المتحدة العتيد في نيويورك، التقيت مصادفة بكوفي عنان، ذلك الافريقي البسيط الذي يحرص على عدم تضييع الفرصة بالالتقاء بأصحابه من الدبلوماسيين والموظفين من العالم الثالث، والذي تربطه بهم صداقات حميمة. كوفي عنان انذاك كان في بداية حياته العملية، ولم يكن سوى موظف عادي في الامم المتحدة انتقل إليها من وفد غانا، بفضل مساندة الدول العربية بالذات والبلدان الافريقية. تدرج كوفي عنان في وظائف المنظمة الدولية معتمدا على اصوات اصدقائه من دول العالم الثالث. وبذلك تمكن من الوصول إلى رتبة مدير التوظيف بالمنظمة حتى اصبح مديرا عاما بمعهد الأمم المتحدة للتدريب المعروف باليونيتار، قبل أن ترشحه أميركا لمنصب الأمين العام للمنظمة.
اتخذت أميركا موقفا أحادي الجانب من قضايا الفساد المتفشي بين موظفي المنظمة، متهمة موظفي العالم الثالث بالفساد الاداري وكان ذلك يشمل بالطبع كوفي عنان نفسه، وبطبيعة الحال، طالبت بإجراء تحقيق بين موظفي الأمم المتحدة لسبب رئيسي وهو: أن بطرس غالي الأمين العام المصري المحسوب على الإدارة الاميركية، أيد تقرير الأمم المتحدة حول المذبحة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بقرية قانا اللبنانية، مما أثار غضب الإدارة الاميركية المتتالي، وانصب ذلك الغضب على بطرس غالي الذي عملت على عزله.
ولا يخفى على أحد أن اميركا كانت تبحث عن موظف مطيع لها من العالم الثالث يحظى بتأييد العرب والافريقيين وبعض دول اميركا اللاتينية والآسيوية، ليس للقضاء على فساد مافيا الامم المتحدة الذي كان اشده ممارسة إبان فترة ولاية الدكتور بطرس غالي. بل لضرب عصفورين بحجر: الأول يتمثل في امتصاص غضب دول العالم الثالث بعد عزل غالي، والثاني لاختيار رجل يخدم مصالحها في الأمم المتحدة، وبذلك تم اختيار عنان على رغم كفاءة الدكتور سليم أحمد سليم، أمين عام منظمة الوحدة الإفريقية، والذي ربما تكون مواقفه السياسية وديانته الإسلامية سببا لمعارضة أميركا انتخابه.
المفاجأة الكبرى لي كشخص عايش حقب الأمم المتحدة وأروقتها، هي بالفعل انتخاب موظف مغمور في الأمم المتحدة لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، ارفع منصب دولي، ليس هذا فحسب، بل أعيد انتخابه كما حصل للأمين العام السابق دي كويلار بفضل المساندة الاميركية والغربية له. وفوق ذلك منحه جائزة نوبل للسلام، وذلك مكافأة له لخدمته المصالح الأميركية في المنظمة، لكن هذه الأمور لا تهمنا كعرب بقدر اهتمامنا بموقف كوفي عنان من القضايا العربية والإسلامية. فقد اثر فينا كعرب أن «إفريقي» من المفترض أن يكون من معسكرنا ومن حلفائنا، ويشعر بقضايا العالم الثالث وقسوة هيمنة العالم الغربي على البلدان الفقيرة، أن ينتهج المنهج الغربي نفسه فيما يتعلق وازدواجية المعايير، واحادية المواقف، ليس فيما يتعلق بالقضايا الإسلامية فحسب، بل حتى في القضايا الإفريقية التي ناضل هو نفسه من اجلها عندما كان عضوا بسيطا في وفد غانا. عنان له مواقف منحازة للغرب لا تنسى: فقد اطبق بالصمت الرهيب في مؤتمر العنصرية بجنوب إفريقيا فيما يتعلق وإدانة عنصرية إسرائيل، ولم يؤيد مطالبات الدول الإفريقية بتعويضها شعوب البلدان الافريقية عن فترة العبودية. والأسوأ من ذلك تبني المواقف الإسرائيلية فيما يتعلق والقضية الفلسطينية، والحدود بين إسرائيل ولبنان والموقف من القضية العراقية، كما تبنى المواقف الإسرائيلية والأميركية التي تلصق تهمة الإرهاب بالفلسطينيين واللبنانيين، على رغم أن الأمم المتحدة لم تتخذ قرارا واحدا يلصق صفة الإرهاب بالمقاومة الفلسطينية واللبنانية، ويعتبرها منظمات إرهابية. والأمر نفسه ينطبق على الوضع في لبنان. بل انه أيد تقرير الأمم المتحدة الذي أعد بأيد أميركية وإسرائيلية لتبرئة إسرائيل من ارتكاب مجازر ومذابح في جنين.
السيد عنان أنني اتساءل لماذا السكوت على قتل الاطفال العراقيين، وتجويع الشعب العراقي بأكمله، والصمت عن القتل اليومي للفلسطينيين؟ ولماذا تفرض العقوبات على العرب والمسلمين دون غيرهم، اليس هناك منظمات أوروبية في اسبانيا وإيرلندا وكوريا وأميركا اللاتينية وإفريقيا تطالب بالاستقلال وحق تقرير المصير؟ وتكافح بالقوة المسلحة لتحقيق أهدافها، ناهيك عن المنظمات الموجودة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية التي لم تعتبرها الامم المتحدة إرهابية؟ إذا أين قرارات الأمم المتحدة الخاصة بحق تقرير المصير للشعوب المحتلة أراضيها بالقوة العسكرية؟ أين قرارات اللجنة الثالثة للجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة بالاستعمار والاحتلال الاجنبي، وحتى قرارات مجلس الأمن وبالتحديد قرار 242 الخاص بحل القضية الفلسطينية الذي تناسته الأمم المتحدة تماما، وركزت على قضايا جانبية لا تمت بصلة كقضايا أمن إسرائيل فوق أي اعتبار.
من ناحية أخرى، لماذا نتغاضى عن مآسي وتراجيديا قتل العرب والمسلمين في افغانستان والسودان والشيشان والفلبين والصومال والعراق؟
هل دماءهم رخيصة؟ نحن بالطبع لا نؤيد قتل المدنيين والأبرياء في أي منطقة من العالم، ونستنكر حوادث 11 سبتمبر/أيلول، ولكن هذا العمل لا يبرر قتل الابرياء في مكان آخر من العالم. كذلك لا نقبل الحصار الاقتصادي والمالي والظلم الاجتماعي وانتشار الفقر والجوع والمرض، وفي دورة الأمم المتحدة الـ 57 المقبلة، يجب عليك انصاف الشعوب الفقيرة من ظلم العولمة واستغلال المصارف الدولية المتعددة الاطراف المهيمنة على اقتصاديات البلدان الفقيرة.
الغريب في الأمر أننا لم نسمع صوت الأمم المتحدة التي حصلت على جائزة نوبل للسلام، يعلو لانتقاد المعاملة غير الإنسانية للأسرى المسلمين والعرب خصوصا من دول الخليج في غوانتيناموا، منتهكين حقوقهم كأسرى وفقا لمعاهدة جنيف لأسرى الحرب، هؤلاء الأسرى يعاملون كحيوانات متوحشة، ويوضعون في أقفاص مخزية لاتصلح للحيوانات مقيدين ومعصوبي الأعين ومكممة أفواههم، بينما علت اصوات منظمات حقوق الانسان في أرجاء الارض إلا صوت الأمم المتحدة الذي مازال خجولا. وفي نيويورك وبقية المدن الأميركية ألا ترى يا سيد عنان أن حقوق العرب والمسلمين المدنية منتهكة؟ لماذا هذا الصمت الرهيب اللا متناهي؟
السيد عنان كنت أقرب المقربين للعرب في الأمم المتحدة، ألا تتذكر كيف كان العرب يساعدونك في الانتخابات وفي الترشح للمناصب؟ ألم يسعى الرئيس حسني مبارك في الارض لإعادة ترشيحك، ألم تأت إلينا يوما وكنت أنا شخصيا امثل البحرين في لجنة البرامج والتنسيق تطلب من العرب الموجودين في اللجنة مساعدتك لاعتماد بند في اللجنة، لزيادة صلاحيات إدارتك في الأمم المتحدة، وقد استجاب العرب على الفور لمطلبك. لقد كان العرب والأفارقة في الأمم المتحدة بمثابة أخوان لك، مع ذلك فإنك ترى وتشاهد وتسمع عن انتهاك حقوقهم من دون حراك، هل صحيح ما يقوله الإيرانيون بأنك تتحرك بموجب أوامر أميركية وانك ليس إلا موظف بوفد أميركا لدى الأمم المتحدة؟ نحن بالطبع لا نرضى أن يقال عنك هذا القول، ولكن آن الأوان لان تتحرك وتنصر حقوق إخوانك العرب والافارقة.
لقد خلّد العالم نصير العالم الثالث داج همرشولد لأنه نصر الحق والعدالة في العالم ودفع حياته من اجل مبادئه، كما أن كورت فالدهايم الأمين العام النمسوي السابق واجهه اليهود واللوبي الصهيوني، وكسب احترام وتقدير الشعب النمسوي الذي انتخبه رئيسا لجمهورية النمسا. واعلم يا سيد عنان ان الشعوب المؤمنة بقادتها لا يمكن أن تنسى مواقفها العادلة والنزيهة لنصرتها.
وأنني على يقين أن الشعب الغاني الذي يقدرك كل التقدير، يتطلع إلى اليوم الذي تخدم فيه غانا ودول العالم الثالث وفقا لمبادئ العدل والمساواة، والحق في التنمية المستدامة والتطور الاجتماعي والاقتصادي، وعندما تنضم لذلك المعسكر سوف ينتخبك الشعب العربي والافريقي وحتى الغاني كرئيس متوج لهذه الشعوب كما فعل الشعب النمسوي مع كورت فالدهايم
العدد 18 - الإثنين 23 سبتمبر 2002م الموافق 16 رجب 1423هـ