العدد 18 - الإثنين 23 سبتمبر 2002م الموافق 16 رجب 1423هـ

الحرية أولا والحرية ثانيا والحرية أخيرا

محمد علي الهرفي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

يروي تراثنا الشعبي أن عنترة بن شداد ولد لأم غير حرة ولهذا لم يعترف والده ببنوته على رغم ما كان يتمتع به عنترة من صفات الرجولة والقيادة... وتمضي الرواية الشعبية فتقول: إن قوم عنترة تعرضوا لغزو خارجي سُبيت على اثره نساؤهم وأخذت ماشيتهم وكان عنترة يرى هذا المشهد وهو ساكن لا يتحرك، ولأن قومه عجزوا عن دفع عدوهم فقد استنجد به والده الذي كان يعرف صفاته جيدا وصاح به: كر يا عنترة. فقال له عنترة: إن العبد لا يكر، فأجابه: كر وأنت حر. فكرّ عنترة على القوم وهزمهم جميعا واسترد أموال قومه ونساءهم.

هذه الرواية تمثل الفارق بين حال العبودية وحال الحرية، والفارق بينهما واضح. فالعبد لا يحسن عمل شيء غير تنفيذ أوامر مولاه وهي أوامر ـ في العادة ـ تكون مناسبة لحال العبودية التي يحياها، ولنا أن نتخيلها كيف تكون. وإذا كانت هذه الحال تنطبق على الأفراد فهي كذلك تنطبق على الأمم سواء بسواء. ومن هنا كانت الحرية مطلب الشعوب ومطلب الأفراد ومن أجلها تبذل الأمم أرواحها لأن هذه الأرواح لا قيمة لها من دون الحرية. والأمة العربية عانت كثيرا من العبودية أثناء الاستعمار وعانت كثيرا من العبودية بعد رحيل الاستعمار، ولكنها عبودية من نوع آخر هي ـ في رأيي ـ أشد سوءا من العبودية الأولى.

الأمة العربية تتعرض حاليا لعملية غزو بشعة تهدف إلى طمس هويتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، كما تهدف كذلك إلى الاستيلاء على كل خيراتها وجعلها أمة لا قيمة لها ولا اعتبار ولكونها أمة لم تُرَبَّ على الحرية فهي تجد صعوبة بالغة في الدفاع عن نفسها. حال العبودية التي تعيشها أمتنا شجعت الآخرين ـ كل الآخرين ـ على التدخل في شئوننا وفرض إرادتهم علينا وإملاء ما يريدون من دون النظر إلى وضعنا أو احتياجاتنا وخصوصيتنا ذلك أنهم يدركون أن أمثالنا لا يستشارون في شيء من أمورهم لأنهم دون ذلك بكثير. والصور التي نراها ونعيشها كثيرة ومؤسفة، فهذه أميركا التي تتحدث كثيرا عن الحريات وعن حقوق الإنسان ترى أن الشعب الفلسطيني ليس قادرا على إدارة شئونه بنفسه بل إنه لا يدرك ما يريد لأنه قاصر عن هذا الإدراك، ومن أجل ذلك فالأميركان يرون أن الرئيس الفلسطيني لم يعد صالحا لإدارة شئون قومه مع أنه من الناحية الرسمية رئيس منتخب من شعبه ومع هذا فهو لا يصلح حتى وإن أعيد انتخابه مرة أخرى، المهم ألا يبقى في السلطة لأن الأميركان أدرى بمصلحة الفلسطينيين من أنفسهم، ولأن هذا الشعب بحاجة إلى دستور جديد يسير على هديه، فإن الأميركيين ـ السادة ـ وجدوا أنهم أقدر الناس على صوغ هذا الدستور ولا بأس أن يشارك بعض العرب ـ الأتباع ـ في صوغه، أما أهل البلاد الذين سيتعاملون مع هذا الدستور فهم أقل من أن يستشاروا في شئونهم، والغريب في الأمر أن بعض الفلسطينيين تمشيا مع قانون التبعية يستجيب إلى هذه العمليات والأوامر مع محاولة تجميل صورتها القبيحة. وكما أن الأميركان لا يعجبهم ياسر عرفات فإن صدام حسين لا يعجبهم كذلك ومادام الأمر هكذا فلابد من إزالته حتى وإن مات ملايين العراقيين بسبب ذلك، فهؤلاء ـ العبيد ـ لا قيمة لهم، المهم ألا يخسر الأميركان أحدا من جنودهم. بعض العرب الذين تربوا على العبودية يعرفون أن الأميركان سيضربون العراق مهما فعل صدام ومهما قدم من التنازلات لأن مصالح الأميركان تقتضي حصول هذه الضربة، ويعرفون أيضا أن العراق لن يكون المحطة الأخيرة للأميركان، ومع هذا فبعضهم لا يمانع من تقديم العون لهم وفتح بلادهم للأساطيل الأميركية لضرب العراق، ويظنون أن تصريحاتهم التي لا تؤيد ما ستفعله أميركا قد يصدقها أحد... السيد عمرو موسى يصرح للتليفزيون المصري بأن العرب لن يقفوا مكتوفي الأيدي إذا ضُرب العراق، ولسنا ندري ماذا سيفعل العرب في هذه الحال، وماذا أعدوا لذلك الموقف؟ السيد عمرو موسى لم يقل شيئا في هذا الأمر، ولسنا ندري كذلك أين كانت هذه الأيدي عندما قُتل مئات الفلسطينيين، وعندما ضربت غزة الطائرات، وكيف ستتحرك هذه الأيدي وفي أي اتجاه وخصوصا إذا كان السادة لا يريدون لها أن تتحرك؟! وإذا كان العرب قد هانوا على الأميركان فقد هانوا كذلك على الأوروبيين، فمن يهن يسهل الهوان عليه. فالاتحاد الأوروبي رأى أن يتدخل في شئون الأردن الداخلية فاشترط عليه إجراء انتخابات نيابية مبكرة وإصلاح أموره المالية، وهذه الإصلاحات شرط لتقديم المساعدات إلى الأردن، الإصلاحات كلها مطلوبة ولكن ألا تأتي إلا بتعليمات وأوامر من الخارج، فهذه هي الكارثة. ولكن هذه رغبة السادة وليس أمام الآخرين إلا الاستجابة لمثل هذه الرغبات... سادتنا لم يتركوا لنا شيئا، فقد تدخلوا في معظم شئوننا وها هم اليوم يصنفون كل من يدافع عن نفسه وعن بلاده من أبنائنا بأنه إرهابي يستحق القتل، وليتهم اكتفوا بهذا التصنيف لكنهم يصرون على أن نقبل منهم تلك التصنيفات بل ونساعدهم على استئصال أولئك الذين يدافعون عن بلادهم من أبنائنا.

أرأيتم عبودية أكثر من هذه؟! حزب الله في لبنان وهو لم يفعل شيئا أكثر من الدفاع عن حدود بلاده وبإمكاناته البسيطة صنّفه الأميركان بأنه حزب إرهابي، وهكذا فعل الأوروبيون. وبدأ هؤلاء في الضغط على كل من يظنون أنه يساعد هذا الحزب لإيقاف مساعداته وإلا تعرض لنقمتهم وغضبهم، على اللبنانيين ألا يدافعوا عن بلادهم وعليهم ألا يزعجوا الإسرائيليين وإلا فالويل لهم، هكذا يريد السادة وعلى الآخرين الطاعة... وإذا كان حزب الله إرهابيا فإن حركة حماس والجهاد الإسلامي بل وكل من يدافع عن نفسه أو أرضه في فلسطين يعتبر في نظر السادة إرهابيا، على كل هؤلاء أن يستسلموا للموت من دون أن يفكروا في المقاومة، وعليهم أن يقبلوا بكل أنواع الذل والمهانة من دون أن يرفعوا أصواتهم حتى بالشكوى والبكاء، فكل حركة منهم تعد إرهابا غير مقبول في نظر السادة. والغريب في الأمر أن بعض العرب ممن تربى على العبودية يكاد يحمل أفكار السادة نفسها ويلوم هؤلاء المساكين الذين يدافعون عن أرضهم وأولادهم وكرامتهم... أمثلة كثيرة نراها في عالمنا اليوم ولا يمكن أن نخرج من هذه الحال المقيتة إلا بالحرية، الأحرار وحدهم هم القادرون على حماية بلادهم وممتلكاتهم، الأحرار وحدهم هم الذين تمتلئ نفوسهم بالكرامة والعزة والرجولة، بالحرية وحدها نستطيع أن نقاوم أي غزو خارجي مهما كان نوعه وشكله. الحرية التي يستشعرها المواطن العربي هي في مصلحة الحكام مثلما هي تماما في مصلحة الشعوب، لأن الحكام وشعوبهم يجب أن يكونوا كُلا لا يتجزأ، المواطن الحر هو الذي يبذل دمه وماله رخيصين في سبيل الدفاع عن معتقداته وعن وطنه وعن حاكمه ولكن متى يكون هذا؟ عندما يستشعر المواطن في كل بلاده العربية أنه يستطيع الحصول على حقوقه كاملة، وعندما يعرف أنه يستطيع أن يبوح بما يعتقد أنه حق من دون خوف أو وجل، وعندما يعرف أنه يستطيع أن يمارس حريته بموجب قوانين عادلة تعرف ما هي الحرية وما ضوابطها... عندما تتحقق هذه الحرية للشعوب العربية، يومها سنكون شعوبا قوية بكل معنى الكلمة.

إن بلادنا العربية تتعرض اليوم لتهديدات كثيرة ومتنوعة، بل هي تتعرض لأقسى حملة في تاريخها الحديث، حملة على نظامها السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، يُراد لها أن تكون مسلوبة الإرادة ليست حرة في إدارة شئونها، ولا أعتقد أنه بإمكان هذه الأمة أن تخرج من هذه المحنة إلا بتربية أبنائها على الحرية، هذه الحرية التي يجب أن تبدأ من الأسرة والمدرسة والجامعة وكل مرافق الدولة الأخرى، الحرية التي تبني ولا تهدم، الحرية التي تربط المواطن بوطنه ولا تبعده عنه، الحرية التي تجعل مسألة الدفاع عن الوطن تسري في كل ذرة من دماء المواطن في كل بلاده العربية. هذه هي الحرية التي ننشدها، وهذه هي الحرية التي نتطلع إليها، وهذه هي الحرية التي نعتقد أنها السد المنيع تجاه كل أطماع الآخرين في بلادنا ومقدراتنا وتراثنا. فهل نضع أيدينا في أيدي بعض لنبني مستقبلنا ومستقبل أبنائنا بصورة سليمة؟ أرجو ذلك

إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"

العدد 18 - الإثنين 23 سبتمبر 2002م الموافق 16 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً