وصف منذر الخور الشاعر "ألفونس دو لا مارتين" برائد الرومانسية في الشعر الفرنسي وبالأديب الذي لامس مشاعر وأحاسيس جمهوره داخل وخارج فرنسا وترك إرثا غنيا ونتاجا شعريا غزيرا متميزا في مضمونه ومعانيه الإنسانية، وجاء ذلك في الندوة النوعية التي قدمها منذر الخور في الثامنة من مساء الأربعاء الأسبوع الماضي وأدارها الأستاذ محمد المبارك ضمن فعاليات البرنامج الثاقافي بأسرة الأدباء والكتاب للفترة من أكتوبر 2016- يناير 2017، وأضاف منذر الخور قائلا: الشاعر الفونس دو لا مارتين الذي عاش حياته في الأعوام من 1790 حتى 1869 هو شاعر كبير، فالبعض يحلو له ان يسميه " شاعر الحب والجمال"، أو كما يلقبه العرب بأمير شعراء فرنسا"، وقد نال شهرة واسعة منذ صدور ديوانه الأول "تأملات شعرية" عام 1820 وأصبح شاعراً مشهوراً يشار إليه بالبنان.
وأضاف قائلا: ومن النادر ان يحظى شاعراً او أديباً بشهرة طاغية وصيت ذائع مع صدور أول عمل أدبي له، وهذا حال "الفونس دو لامارتين"، والأغرب انه عاش في عصر زاخر بالشعراء الأفذاذ الذين لا نظير لهم في الشعر الفرنسي حتى عد العصر الذهبي للشعر الفرنسي من أمثال "فيكتور هيغو"، "شارل بودلير"، "رامبو"، "بول فرلين"، "الفرد دي موسيه" وغيرهم من الشعراء الأعلام، إلا أنه منذ أن نشر مجموعته الشعرية الأولى "تأملات شعرية" حقق نجاحاً باهراً وذلك يعود إلى أسلوبه العاطفي الجديد وما عبر عنه من مشاعر عميقة ورقيقة، بلغة قوية الإيقاع جميلة الرنين، حيث وضعه هذا الديوان في الذروة بين شعراء الغزل الفرنسيين ومهد له الطريق إلى عضوية " الأكاديمية الفرنسية" وهي المجمع العلمي للغة الفرنسية. ويعد هذا الديوان أول مجموعة أعمال رومانسية في تاريخ الأدب الفرنسي ثم حظي بعد سلسلة من الاعمال الشعرية بلقب رائد الرومانسية في الشعر الفرنسي.
روائي ومنصف
ويؤكد الخور في حديثه على أن رائد الرومانسية في الشعر الفرنسي لم يكن شاعرا فحسب وإنما هو روائي ومؤرخ ودبلوماسي وبرلماني ووزير ومرشح للرئاسة الفرنسية، كما عرف عنه أنه رحالة كثير الأسفار حيث زار ضمن رحلاته وأسفاره المتعددة الشرق وتحديدا فلسطين (القدس)، سوريا ولبنان، وكتب عن رحلته هذه في كتابه "رحلة إلى الشرق" وكان معجباً بالشرق العربي وتاريخه وتقاليده وأخلاقه وأبطاله وأبدى إعجابه بـ "خان أسعد باشا العظم" في دمشق عندما كتب وصفا دقيقاً عنه بأنه "قطعة من العمارة الاسلامية التي لا نظير لها في العالم"، وقال عن لبنان "لو قدر لي لأمضيت العمر كله في لبنان، مصطافاً في جبله، وشاتياً على سفوحه".
ويعتبر الشاعر "دو لا مارتين" من الأدباء والمفكرين الغربيين القلائل الذين كتبوا بإنصاف وموضوعية عن الدين الإسلامي وعن الرسول الاكرم (ص) وذلك في كتابه "حياة محمد" الذي يعد المجلد الاول من كتابه "تاريخ تركيا" الذي يشتمل على 6 مجلدات ويعد كتابه "حياة محمد" من الأعمال الفكرية الكبرى التي تؤسس لدعائم التقارب والتفاهم بين الأديان والثقافات لأن أهمية هذا الكتاب تكمن في كونه يقدم بوضوح شديد كيفية تيسير التفاهم الحضاري والتعايش الثقافي، بل يعد وثيقة فكرية هامة لحوار الحضارات اليوم، وقد أثرت شخصية الرسول الاكرم (ص) تأثيراً كبيراً في حياته السياسية وحفرت بعمق في وجدانه حيث تمكن من رؤية جوانب مضئية وعظيمة في شخصية الرسول (ص) وأبدى إعجابا شديداً به ووصفه "بالفيلسوف والخطيب والنبي والمشرع والمحارب وقاهر الأهواء ومؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقة بلا انصاب ولا ازلام" وقال في حقه متسائلاً "من ذا الذي يجرؤ أن يقارن أياً من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد (ص)؟".
ويرى منذر الخور أن لهذا الشاعر خصوصية مميزة لأنه كتب قصيدة تعد بحق مرثية مؤثرة إذ كان الفرنسيون يجهشون بالبكاء وهم يقرأون قصيدته حتى قال أحد الأدباء الفرنسيين المشهورين "أن فرنسا كلها كانت تبكي مع دو لامارتين" وقد نالت هذه القصيدة نصيباً كبيراً من الترجمة إلى جميع لغات العالم لم تنله قصيدة أخرى لأي شاعر أخر في العالم، وكان حظها من الترجمة إلى العربية أو التعريب كبيراً جدا حيث ترجمها أدباء وشعراء عرب كبار نظما ونثراً ولازالت تترجم وتعرب إلى اليوم ودون توقف إعجاباً بمضامينها الجمالية وتعابيرها الرقيقة المرهفة.
قصيدته "البحيرة"
ولد دو لا مارتين بعد الثورة الفرنسية بعام واحد في مدينة (ماكون) الواقعة في مقاطعة اللوار، وعاش وترعرع في قصر (ميلي) ضمن أملاك والده في ميلي قرب ضفاف نهر اللوار بوسط فرنسا، ينتمي إلى أسرة من النبلاء ومنذ صغره كان مناصراً للثورة الفرنسية، لكنه في سن 17 لم يقبل أن يدخل في خدمة (نابليون بونابرت) الذي كان يسميه "الغاصب" وفضل الإنزواء والعيش في أملاك والده حيث انكب بشغف على القراءة للأقدمين ولكتاب القرون الوسطى والحديثة وللكتاب الإيطاليين والإنكليز، ثم سافر إلى إيطاليا لمدة أربع سنوات من 1811- 1814 وزار تورينو وفلورنسا وروما وتعلم الإيطالية والإنكليزية.
وأشار الخور إلى أن "تأملات شعرية" صدر عام 1820 وضم 24 قصيدة نظمها في الفترة من 1815- 1820، لقى نجاحاً منقطع النظير وجعل منه شاعراً مشهوراً يقف في طليعة الشعراء الفرنسيين، ويعد أول مجموعة أعمال رومانسية في الأدب الفرنسي، ثم لقب بعد سلسلة أعمال شعرية بلقب "رائد الرومانسية"، وقد ضم ديوانه الأول قصيدته الشهيرة "البحيرة" التي تعد من روائع الشعر العالمي، كان عمره 31 عاماَ عند صدور ديوانه الأول، وهذه القصائد أشبه بمذكرات شخصية لما عايشه الشاعر من تجارب خلال تلك الفترة، وكان ملك فرنسا وحاشيته كوزيره "تاليران" يحفظون قصائد هذا الديوان عن ظهر قلب لشدة تعلقهم بها.
واستعرض جانبا من إصدارته "تأملات شعرية" ديوانه الثاني الذي صدر بعد 3 سنوات من الديوان الاول، "تناغمات شعرية دينية" عام 1830، "موت سقراط، آخر انشودة جحيم للطفل هارولد، روفائيل، رحلة إلى الشرق 1835، جوسلين 1836، سقوط ملاك 1838، خشوع شعري 1839، كرازييللا 1852، تاريخ الثورة الفرنسية، تاريخ تركيا 6 مجلدات، المجلد 1 حياة محمد، ويعقب: إن الدفق الشعري عند "لامارتين" المتجلي بوضوح في قصيدة "البحيرة" وقصائد اخرى مثل "الخريف" و" الوادي الصغير" يتحلى بأهم خصائص الرومانسية حيث ينبع من تجربة شخصية تطبعها الذاتية إلى مدى بعيد، وأثر لا مارتين على الشعر والشعراء العرب، فالكثير منهم تأثروا بشدة بأشعار ورومانسيته ونشأ نتيجة لهذا التأثر جيل من الشعراء الرومانسين العرب، وبالأمكان تلمس هذا التأثير بوضوح في بعض قصائد " لياس أبو شبكة"، "صلاح لبكي"، "علي محمود طه"، "أحمد زكي أبو شادي" "د. إبراهيم ناجي وغيرهم، ويعتبر "لا مارتين" أكثر شاعر أجنبي حظي بالاهتمام والترجمة أو التعريب من قبل الأدباء والمثقفين العرب وذلك منذ عشرينات القرن 20 حتى سماه العرب "أمير الشعراء الفرنسيين"، وأول من كتب عنه هو الشاعر اللبناني "إلياس أبو شبكة " وبعده بسنوات قليلة ترجم له الكاتب المصري "أحمد حسن الزيات".