تدخل جموع الجمهور متيقظة، تتفحص المكان الخالي من المقاعد إلا قليلاً؛ بخلاف ما اعتادته في أي فعالية، تختار لوقوفها مكاناً. الظلام مشرئب كما هو في الواقع المليء بالحروب. عدا بعض بصيص أنوار ستتناوب على المكان بتناوب الأصوات الرافضة للحرب في كل جهات المكان.
ذلك كان المشهد الأول في فعالية «كولاج من أجل السلام» التي أقامتها مجموعة مجاز بالتعاون مع مشق آرت سبيس وحركة الشعر العالمي، فعالية تداخلت فيها الفنون: شعراً وتمثيلاً وتشكيلاً وموسيقى رفضاً للحروب وكل ما يعكر صفو السلام في هذا الكون.
الشعر والموسيقى كانا المحرك الأول لهذه الفعالية، بدأت بالشعر وانتهت ببيان رافض للحرب، داعٍ للسلام.
يبدأ الفنان محمد الصفار الكولاج وهو من ينهيه، علماً بأنه مخرج العمل إلى جانب الفنان صادق العلوي، فيما كانت الموسيقى من أداء: محمد المرباطي ويوسف الشرقي.
الشاعر أحمد رضي يتغنى بقصيدته سراج البكاء، يقول فيها:
«بظل النخيل غفت طفلة دثرت بالشحوب
وفي رأسها، وفي نحرها، ثقوب بلون الغروب
وماتت ولم يتغير على الأرض شيء
سوى دمعة نزلت من أعالي السماء
حشود وشمس الظهيرة قلب يسيل
حشود وبعد قليل فراغ
وسيدة بالعباءة عند الرصيف
تناجي الجثث:
بني تعالوا إليَّ وقوموا اندبوني
أنا أمكم كربلاء».
أما الشاعر كريم رضي، الذي كان يلبس الأحمر ويقف على سجن خشبي تتدافعه شاعرتان فقد قرأ شعره فيما يتقاذفه الطرفان، وكأنه يقول: أنا ككل الأراضي وكل الشعوب لعبة بيد الأقوى. يقو رضي في نصه: «كم أحتقرك أيتها الحرب/ لم أعد أؤمن بأن ثمة حرب عادلة/ وكل الحروب التي آمنت بعدالتها يوما/ أعتذر لدمائها التي جفت والتي لم تزل.
الصاروخ/ كفى خيلاء يا عابر القارات/ قد عبرها قبلك كتاب رشيق أرقى ذكاء وأخف ثمناً.
القذيفة/ إن كان لابد وأن تمرّي فبهدوء/ أيتها النار اللامقدسة/ لا تستحق كل أيديولوجيات العالم أن نزعج في سبيلها طفلاً نائماً».
ولم ينسَ رضي أن يذكر المنتفعين من الحروب بسخرية سوداء، إذ قال على سبيل المثال متحدثاً عن مراسل الحرب: «يريد أن يدرك مشهد أموت طازجاً ليغدو التقرير مثيراً والصور مؤثرة». وعن شاعر الحرب: «سعيد بكثرة القتلى، ستصبح القصيدة دراما رائعة».
ينتهي نص الشاعر رضي ليبدأ مشهد تمثيلي يؤدّيه الشاعر مهدي سلمان والفنان عمار زينل كحوار بين رقيب وشاعر يحمل قصيدة «خرساء» لا يسمح لها بالمرور. يحاول الشاعر تمريرها لولا أن الرقيب يرفض، لكنه يتبرأ منها في اللحظة الأخيرة ويدخل بعد أن يقنعه الرقيب أن «القصائد كائنات متوحشة، ولا تدري حقاً، على رغم كونها صامتة متى وكيف يمكنها الهجوم عليك، لذا نحن نتخلص منها هنا».
والشاعر ككل الشعراء المهمومين بنصوصهم يجيبه: «على رغم كونها لا تزال ورقة بيضاء، لكن صدّقني أنت لا تدري حجم الهم الذي كنت أحمله وهي معي. مجرد ورقة بيضاء، لا تقول شيئاً... أنا أعرف القصائد جيداً. وهذه كانت ستكون قصيدة (مشكلجية)».
هل اقتنع الشاعر بكلام الرقيب؟ هل تنازل عن قصيدته التي كان يحملها معه هماً حتى قبل أن تكتب؟ هل يمكن أن يخرس صوت القصائد «المشكلجية»؟ كل هذه أسئلة تتردّد في الواقع قبل أن تختلج في صدور المشاهدين لهذا الحوار في هذه الفعالية.
ملاك لطيف الشاعرة ذات الصوت المنفرد، تخاطب «الراقدين في سهر الصور الجميلة على الجدران/ الراقدين وقد أشبعتهم البحار غرقاً... كمن وُجِدوا بفزع الأمهات من القبور، بأذيال أثواب تشققت ولطخها الطين.
وصارت تحملهم إلى البيوت، وتدخل بهم الأسرّة، وتعيدهم من الحلم.. موتى أوقاتٍ ماضية».
لتختم نصها قائلة: «أنا حارس رقادكم، سليله في الرمل/ أزرقاً خالصاً، ميتاً يتجدد، ينمو، يفرّ من بلد خائف ويحلم بكم... بنا، الواقفين خارج الصور».
ومن خلفها يرسم الفنان محسن المبارك لوحته وهي تبكي غريقاً كان هارباً من الحرب.
ثم يعود الشاعر مهدي سلمان بنصه ليقول: « في طريقنا الأخير، ونحن فرادى مثل قطيع من العواء البعيد... رماحنا في حلوقنا الجافة، ولا يتوقف الدم اليابس عن التصلب على أجسادنا المنتفخة/ تتعالى صيحاتنا، يلمس بعضنا بعضاً/ ونبتسم مثل عقبان منتشية».
الشاعرة جنان العود، بصوتها الدافئ البعيد عن صخب الدم، القريب من الأسئلة تقول: «هل عليّ حقاً أن أكتب شعراً عن الطفل الميت على ضفاف البحر بكامل أناقته... لا زال ينتعل حذاءه الممتلئ بمياه البحر... لعبه فلتت منه في الماء، وظل وحيداً ممداً. الطفل الجالس على الكرسي البرتقالي في عربة الإسعاف محاولاً مسح الدم عن عينيه... ويعلوه صمت الخوف. الأب الذي كان يبكي مرتدياً سترة نجاة حاملاً طفلتيه بعد أن نزلوا من قارب الموت».
وليس ببعيد عن كل هذه الأجواء، تدخل الشاعرة إيمان أسيري بنصها المكتنز ألماً لما يجري في العالم قائلة: «في فضاء اليمن يقفز الحزن، في الشام فقد جناحيه، في كتاب ليبيا مات الحزن... وفي بلاد أغلقت الباب على نفسها، تنامت شهوة الحزن، ولم تقل شيئاً عن الأنّات الطازجة، خارج أحلامها».
الشاعر محمد النبهان قرأ قصيدته في الحادي والحربين قال فيها: «في العام الحادي والتسعين/ وقفت على طرف الموت ثلاثاً/ لكن الموت تأخر/ فاعتدت الوحدة/ كان مسدسه في رأسي/ اقرأ!! الحرب ستشعل كل حرائقها الآن/ سكت/ اقرأ/ الحرب صراع الآلهة الأولى/ ودم الأطفال/ عطايا الجوع/ لباس العري/ بين الساتر والساتر صحراء قاحلة والطلقة ذئب».
وبوجود طفلة تحمل شمعة بيديها الصغيرتين، وعلى صوت الموسيقى، يطل الشاعر أحمد العجمي من زاوية قصية قائلاً: «من سفينتي الذكية/ سفينتي التي تحوم حول بيتي الأزرق/ أطل على سهول الفراغ/ على أصداء الضوء السرمدي/ حيث يزداد تدفق قلبي في اللانهائية/ في وطن جميل وكائنات مدهشة/ فكم هو جميل لو أطعمنا أطفالنا الشعر/ نضع كتاباً للشعر في حقائبهم المدرسية».
أما الشاعرة فاطمة محسن فتعبّر عن ألمها الداخلي كلما تعالى صوت الموت وصوت الحرب قائلة: «على غير ما تتمنى الجداول/ تجف الطفولة فيّ/ تتراقص أعمار تلك الزنابق/ ثم تلفظ حصتها من جنون الجنون/ سئمت صراخ الدفاتر حين الكتابة/ أين أفر إذا ما تلا الحبر قصته/ وجعاً غائرا في النخيل/ وأين أفر إذا صب في الروح أناته/ وأين أفر إذا احترق السطر من سطوة الموت/ فوق رغيف الحياة».
الشعر يرفض الحرب، الموسيقى ترفض الدم، التشكيل يصرخ كلما لطخ دم وجه طفل قتيل، والقلوب البشرية التي لم تدنسها قسوة الحجر تمقت الحرب وما تخلفه من دمار. كل من حضر في تلك الليلة، ومن تابع، ومن شاهد، ومن قرأ، يرفض أن تكون له يد في هذا الظلام، ويبحث ملتفتاً لأي ضوء في أي بقعة تشير إلى السلام. ليستمع لصوت الرفض مهما كان خافتاً.