هل يمكن لواحد من أكبر الفنانين السرياليين في العالم (سلفادور دالي) أن يتفرَّغ لوضع كتاب عن الطبخ؟ السؤال وحده يحمل إشكالاته، على الأقل ضمن رؤية شرقية، كي لا ندخل في حال من التعميم. ما الذي يمنع ذلك أساساً، باعتبار الطبخ فناً من الفنون. هناك المعرفة بالمذاقات التي باتت اليوم عصباً رئيساً في اقتصاد قائم بذاته: اقتصاد الضيافة والفنادق. والفنان جزء من هذا العالم، وعلى ارتباط بكل ما له علاقة بالفن، أو هكذا من المفترض أن يكون. دالي نفسه كتب ما نصه: «عندما كان عمري ثلاث سنوات أردت أن أصبح طاهياً»، كان كل شيء في مدار التمنيات التي حقق بعضها، وكان من الصعب أن يحقق البعض الآخر؛ إذ في الفقرة نفسها يقول: «أردت أن أصبح نابليون بونابرت»، لكنه بالطبع لم يصبح كذلك. المهم عنده «منذ ذلك الحين لم يتوقف طموحي عن الازدياد والنمو». كل شيء له علاقة بالطموح، ومحاولة تحقيق ما يريده، بالإمكانات التي لديه وزيادة عليها.
ذلك ما فعله في العام 1973، حين أصدر كتاباً هو عبارة عن تكريم لزوجته إيلينا إيفانوفا (غالا) (2)، حمل عنوان «عشاء غالا»، وصدر في 400 نسخة فقط، ظلت حصراً على الأثرياء في العالم، وضمن مقتنياتهم. الكتاب صدرت طبعة جديدة منه بعد أكثر من 40 عاماً من تاريخ صدوره. وسجَّلت طلبات اقتنائه على موقع «أمازون» أرقاماً قياسية؛ إذ يُتوقع له أن يكون من أكثر الكتب مبيعاً، ومن المُقرَّر أن يكون متوافراً في السوق الشهر المقبل، وتحديداً في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
تقرير كل من إسثير آدلي وأليسون فلود في صحيفة «الغارديان» البريطانية يوم الثلثاء (11 أكتوبر/ تشرين الأول 2016)، يسلّط الضوء على الكتاب، إضافة إلى مساحة أكبر نستعرضها هنا من الكتاب، وما يرتبط بدالي وزوجته غالا.
كتاب الانهماك بالملذَّات
يُوضح التقرير أن الكتاب يشير إلى أن مكوِّنات بعض الأطباق فيه ليست متوافرة في كل محل، إلا أن جميع الأطباق يمكن تجربتها مع ما يكفي من الشجاعة في البيت، وستكون صالحة للأكل.
الكتاب ذهاب إلى طفولة دالي المبكِّرة، فيما يشبه التأكيد على فضاء الخيال لديه، وانهماكه وأنانيته وملذاته. ثمة استعراض وبسخرية للتهوُّر الذي عُرف به وعنفه أيضاً، تلك التي وقفنا على تفاصيل منها في مذكراته.
المُتحدِّثة باسم ناشر الكتاب أوضحت أهميته بقولها، سترون بالنظر إليه، إلى أي مدى يشكِّل الكتاب حقيقة ثقافية جميلة؛ إذ إن وصفات الطعام هي لأفضل الطُهاة في المطاعم الفرنسية، إلى جانب أن هناك أعمالاً فنية جميلة أنجزت للكتاب. ثمة وصفات طعام سيستمتع الناس بقراءتها».
الكتاب يحوي وصفات متنوِّعة، بعضها سيبدو غريباً بالنسبة إلى القارئ العربي، وقد تثير اشمئزازه، لكن بعضها لذيذ ويُعدُّ من أطعمة الطبقة المخملية في فرنسا على وجه التحديد، فهنالك فطائر لحم الضفادع، على سبيل المثال! وشرائح لحم العجل (الستيك) الذي يتم حشوه بالقواقع. هل جرَّبتم لحم العجْل المحشو بالقواقع؟ يبدو الأمر لوحة سريالية أيضاً، كأعمال دالي تماماً، وذلك ما يحدث بمرافقة الوصفات والتركيبات تلك مثل تلك اللوحات بتوقيع دالي. هنالك أيضاً وصفات لإعداد محَّار البحر والكركند، وثمة هجاء للسبانخ الذي لا شكل له، والذي يراه نقيض المحار ذي الدرْع «أحب تناول البدَلات الخاصة بالأسلحة. واقعاً أحبُّ المحَّار. هو طعام من حيث معركة تقشيره التي تجعله هشاً لغزو مذاقنا».
من المتعة إلى التعذيب
لنعد قليلاً إلى الوراء، ألم يقل مجنون المدرسة السريالية ذات يوم: «كي ترسم يجب أن تكون مجنوناً». ليس الرسم وحده. سنقف على وصفات للجنون أيضاً في بعض وصفات الكتاب المذكور. الجنون الذي يجعل من اللاشيء أكبر من الشيء، بل في المركز من تفاصيل المكان والحياة، على الأقل ضمن زاوية جنونه الذي عُرف به. الجنون النادر في عالم يدَّعي العقل.
سنجد بين اللوحات «تلفون كركند البحر»، تلك التي أنجزها في العام 1936. وتصوير دالي نفسه معية لحم خنزير مقدَّد مشوي.
مقدمة الكتاب تثير نقطة غاية في الأهمية بالنسبة له، وهي هوس بعض الناس بحساب السعرات الحرارية التي تحويها أطعمتهم؛ حيث يشير إلى أن على أولئك أن يغلقوا الكتاب ويتجنَّبوا قراءته، بتحويلهم ما يحويه الأكل من مُتعة إلى شكل من أشكال التعذيب بهوس حساب تلك السعرات! لم يخلُ الكتاب أيضاً من وصفات «مفيدة للنشاط الجنسي».
تظل الرسوم التي رافقت الوصفات لصيقة من دون مواربة ببعدها السريالي بامتياز، من بين ذلك لوحة لرأس من دون جسد، ويأخذ الشعر فيه شكل البسكويت، وثمة خصلة شَعر تأخذ شكل مرطبان مربَّى، وعلى الجانب منه ستجد مكعَّبات من الجبنة الزرقاء. يمكن أيضاً رؤية هاتف معلق على شجرة يحمله صحن يشي بالذبول، عليه بيضتان مقليتان وشفرة.
الفصول الـ 12 المتنوِّعة في تناولها ووصفاتها، تتضمَّن في فصلها الأخير «أنا أتناول غالا»، استعراضه لملذّاته الإيروتيكية (الإيروتيكية في اللغة الإنجليزية: المثير للشهوة الجنسية، وإيروسية، تعود إلى تسمية لأحد آلهة الحب عند الإغريق، وثمة من وضع تعريف الإيروتيكية ضمن أدب المواخير).
دالي: الفضائح جزء من التراث الشعبي
تعجُّ الصفحة الخاصة بدالي على موقع «ويكيبيديا» بتفاصيل بعضها دقيق، والآخر تختلط فيها أسماء ومعلومات، آثرنا تقديم الثابت في عديد من المصادر التي تناولت جوانب من سيرته.
ولد سلفادور فيليبي خاثينتو دالي في 11 مايو/ أيار 1904، في مدينة فيغيراس بمقاطعة جرندة، التابعة إلى منطقة كتالونيا شمال شرق إسبانيا، وتوفي في 23 يناير/ كانون الثاني 1989.
من أهمِّ فناني القرن العشرين، وأحد أعلام المدرسة السريالية. يختلط في حياة دالي وفنه الجنون بالعبقرية، علاوة على نرجسيته الشديدة.
عاش في أسرة ثرية، وكان والداه يوفران له كل مطالبه. ونتيجة لدلاله المبالغ فيه فقد عُرف عنه سلوكه الطائش، كدفعه صديقه عن حافة عالية كادت تقتله، أو رفسه رأس شقيقته «آنا ماريا» التي كانت تصغره بثلاث سنوات، أو تعذيب هرّة حتى الموت، واجداً في أعماله تلك متعة كبيرة كالتي كان يشعر بها حين يعذب نفسه أيضاً؛ حيث كان يرتمي على السلالم ويتدحرج أمام نظر الآخرين. ولعل هذه التصرفات التي أوردها سلفادور دالي في مذكراته فيما بعد هي التي شكّلت الشرارة النفسية الأولى للمذهب الفني الذي اختاره للوحاته.
في العام 1964، أصدر سلفادور دالي كتابه «يوميات عبقري في باريس»، وهو مأخوذ من دفتر يومياته الذي يغطّي المرحلة الممتدة من العام 1953 إلى 1963. يُشكّل الكتاب تكملة لسيرته الذاتية التي صدرت بعنوان «الحياة السرية لسلفادور دالي» والذي يُعتبر من أكثر كتب دالي إثارة.
تزوَّج من الروسية إيلينا، المعروفة باسم غالا، وقد جاءت غالا إلى فرنسا بمفردها العام 1913 وهي لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها. في العام 1929 التقت بدالي الذي كان يصغرها بعشر سنوات تقريباً. وقد ظهر تأثير غالا الواضح عليه وعلى أعماله الفنية؛ حيث كانت حريصة على منع تخيُّلاته المتطرِّفة في الحياة والفن من أن تصبح حالة مَرَضية، وكان هذا الحرص الدائم سبباً في الجاذبية المتصاعدة والمستمرة بينهما إلى درجة أن دالي كان يوّقع بعض لوحاته باسمه واسم غالا معاً.
في العام 1984 احترق دالي في غرفته ضمن ظروف مُريبة ربما كانت محاولة انتحار، لكنه لم يمت وعاش خمس سنوات تالية. في 23 يناير 1989 توفي تاركاً إشارة استفهام ضخمة حول حجم الإرث الذي خلّفه على هامش القائمة الكبيرة من الفضائح التي أصبحت بحسب قوله تشكّل جزءاً من التراث الشعبي.