صرْح الغرفة الممرّد من قوارير كواحدة من كراساتي، وبلاطها الذي يعكس وجهي بأصعب تجاعيده لنصاعته. ورقة ضاعت بين طيات أوراق تلك الكراسة، وحين أرمق الفراغات المستقيمة التي اعترت ذاك البلاط ما أجدها إلا أسطراً بالكاد تميزها عن مجرى حبري، وكأنما تلك الأسطر وما صاغته يدي نوتة حرفية موسيقية متناغمة تجانست فيما بينها، معتنية بهوامشها صافية ليبقى شكل الصفحة أجمل تنسيقاً.
أجلس في زاوية تلك الغرفة متخذة وضع القرفصاء، أتابع حركاتهم المستهجنة التي تراوغني كزئبق يغلي، كنت أخشى أن أحرك ساكناً فتميل نحو بدني قطرة من قطراته متسللة حيث الأعضاء الغنية منه بالدهون كدماغي مثلاً، نظراً لميلانه الشديد نحو الذوبان في الدهون، فيؤدي بي إلى حدوث أعراض مرضية خطيرة بالجهاز العصبي تُعرَف بالبكاء الزئبقي، فدماغي لا زال في أوجّ قوته... هذه ليست من علامات الهلوسة، بل أعي جيداً ما ورد بالصفحة السابعة من كتاب الكيمياء المقرر دراسته بالسنة الثانية.
بين أسوار الغرفة السابعة من الطابق الثاني للمشفى، تسيل من بين قدميّ جموعاً من الزئبق البشري. لوهلة شعرت بغضب، غضب عارم اجتاحني، لم أكن أقبل أن تطأ أقدامهم كراستي التي كنت أتوسدها، الآن والآن فقط بتّ أبصر ما يحدث هنا فقد فاق المتوقع، لا بد وأن أضع حداً لتلك الحوافر التي داست كراستي بحقد وعنجهية. رويداً.. هي لم تكن كراستي، وإنما قد تراءت لي من بين شقوق البلاط، لكن ذاك لم يشفع لهم عندي، فما يحدث هنا لا يختلف عمّا يحدث خارج أسوار المشفى، الأحداث واحدة، والسيناريوهات متشابهة، وتحطيم أحلامي على مرأى ومسمع مني مستمر، فقط اختلفت الشخوص والسبل. ارتعدت فرائصي فانتفضْتّ معترضة للمرة الأولى!
انتصبت شامخةً ورحتّ أضرب جدران الغرفة بقوة، لكن ما من ضجيج أسمعه سوى دقات قلبي المتسارعة المتراقعة بصدري، والتي ما كدتُ أن أفرق بين الدقة وتاليتها، فالغرفة مبطنّة بالإسفنج.
قصدت باب الحديد، لأفرغ جام غضبي به.
هرعت الممرضة لتفتح باب الغرفة، رأتني على وضعيتي، فاعتقدت إنني أحاول الانتحار!
أنا فقط أصنع من ملاءات الأسرّة معطفاً، ومن وجه وسادتي بطاقتي التعريفية، أما ما رأته يلتف حول عنقي من حبال تسولتها من ستار النافذة ما هو إلا سماعة الطبيب يا تلك!
نادت الطبيب المناوب من أم رأسها، ليقتادوني لمعزلي الجديد، لم تمهلني فرصة لأبيّن لها رموز ما اعتلى بدني من قماش، عيناها تحدق في عنقي فقط !
لم تنتظر مقدم الطبيب، كانت تشقّ الدرب تسابق الريح، علّه طبيب خامل للتوّ قد تسلم مهام نوبته. في غضون الدقيقتين أقبلت علينا ملامح مبعثرة تكاد تتستر عني ببخار الكابتشينو المتصاعد، حاولت أن ألملم شيئاً منها حتى اكتملت الصورة! ذاكرتي عادت بي شيئاً ما نحو الوراء، هي صورة الطالب الذي سلبني حق إتمام دراستي بعد أن نسب أحد أبحاثي لنفسه، فالتبس الأمر وذاع صيتي سوءاً.
بقيت أردّد أنتم مخادعون،منافقون، محطمون للأحلام، أنتم الأهل للشنق لا أنا كما تظنون.
انتزعت وجه الوسادة المتدلي من عنقي، فكان أوْلى به أن يكون على عنق من أسموه طبيباً، سحبته بكامل قوايّ باتجاه مضاد وسط ذهول طاقم التمريض الذي اكتسح الممر، متلهفاً لكشف هوية المقبل على الانتحار.
بعد دقائق بل وربما ساعات، لا أذكر تماماً، صارت صفحة كراستي مشوّهة امتلأت هوامشها بخطوط غلاظ وصفحاتها بجمل اعتراضية وأقواس معوجّة هي حجج نفاق وخبايا، كحبر أسود حالك اعتراها.. يلوح السواد كباقي الوشم في ظاهر اليد !
حبيييتها ... ولو انك لم تكوني الفائزة ... ولكن اسلوبك اعجبني