ننشر اليوم الجزء الثاني من قراء الكاتب يوسف مكي التي تناول فيها جوانب من جماليات المجموعة الشعرية «بيت بفيء الياسمين» للشاعرة البحرينية فضيلة الموسوي؛ حيث انتهى الجزء الأول من القراءة، إلى استمرار قصائد «مهجة البيت» في الانثيال العاطفي من قبل الشاعرة تجاه السيد لتكن هي حارسته في لحظاته الأخيرة كما في قصيدة (جناح 12) ففي المقطع الأخير من القصيدة تصوير جميل لهذا الموقف التراجيدي:
«على سرير الله
لي وحدي
أطرافه الباردة
في ظهيرة باردة
أنامل معطلة عن القلم
ترجل تشيد الأمل
على حافة الولادة».
تبقى الذاكرة مليئة بأخبار السيد وخاصة في العيد وتأتي قصيدة «يوم العيد» للتعبير عن العلاقة الحميمة في مثل هذا اليوم والتي يمثل السيد محورها القادر على جمع الفسيفساء العائلية:
«وسيد القبيلة
مشغول بهدوئه المعتاد
يشكل لوحة تكنى الفسيفساء».
أما في قصيدة «عندما يحين الكتاب» فهي تصوير للسيد وهو جالس بين الكتب وفي حضرة الكتب وكأنه يمارس طقوساً:
«وحده هناك
معتزلاً في محفل البحث
في حضرة خيال يترع الكؤوس
خلف طاولة مخلصة لسيد مطاع
وجوقة الكتب الخمرية
تحفة تزخرف السماء».
أما جهات السيد ونواحيه ومنازله فهن زوجات السيد، هي منازلهن على تعدد هذه المنازل هي ثمراتهن. هذا ما تشير إليه قصيدة «جهات السيد» في مطلعها:
«والحظ الأوفر شمالاً نحو المنامة
أشارت بصيرة البوصلة
لكن
إن حط رحاله في عباب الشرق القصي عن دوحة
القلب
أو غطس في غرب البحر الغامض من ناسه وجيرانه
فكل جهات الأرض شتات اليتم الموغل في ألم وقور» .
وهاهو السيد قد ووري الثري، ولكن ضريحه لا يشبه الأضرحة إنه وفقاً للشاعرة فضيلة الموسوي/ ابنته «ضريح الياسمين»، ولا داعي لألواح الرخام والشواهد، وللتعبير عن علاقة السيد وهو تحت التراب بمن هم فوق التراب تقول القصيدة:
«لا تقيموا الرخام
زينة للزائرين
دعوا مسافة القلب قائمة بيننا وبينه
دعوا القبر مفتوحاً ليتنفس رائحتنا
لا ضير من سماعه لوعتنا وأشواقنا
رشوا تربته بماء المحبة
واسمحوا لاخضرار ينصع من قلبه».
والسيد لا يحتاج لكل هذا فهو حي تحت التراب ويسمعكم وأنه لم يمت والشاهد وهالته مشعشعة في المكان:
«فلو نحيتم قليل المشموم
ونبشتم أقل التراب
سترون الساق على الساق
في سروال أبيض
ورأسا يضج بالأحلام
أرخى الرأس هنيهة على جنبه الأيمن
غفا عن كتاب لازال مفتوح الفؤاد
لكنه بسمعكم
يستأنس حسكم
ربما ينشد الهدأة الآن
ربما امتدت قليلاً إغفاء الظهيرة»
وللحقيقة أن هذه القصيدة تعتبر من عيون الديوان بلغتها وصورها المتنوعة وأخيلتها ومجازاتها المعبرة عن الحال الشعورية والعاطفية بين السيد وابنته/ الشاعرة.
وفي «الترنيمة» فإن السيد باق:
«هذا القادم من ليل الحكايات
راوغ سيف الوقت
بترنيمة الحبر
وزخرفة الأسماء».
ويظل السيد كبيراً دون أن تستغرقه القصائد فهو متعدد الاهتمامات والهويات والأشواق، حياته بين اليتم والممات حافلة بكل شيء، ذلك أن حياته على تنوعها لهي أشبه بـ (ليل طويل الكلمات) فيها كثير من المحطات:
«منذ ليل المشكاة
وأول دموع اليتم
على وجه غاب قبل أوانه
وجه أزهر في خياله
وجنَ في البحث عن توأمه»
«منذ ليل مدينة لكْنو
خطواتك الأولى
وصباك الفارع بالملذات والأحلام
تهيأت لك الأيام
كما تهيأ الحبر للكلام».
وتستمر القصيدة في التعبير عن محطات السيد حتى المحطة الأخيرة:
«محمّلاً على أفئدة باكية
بين مولدك ومعراجك
حبل سري يصل الطين بالسماء
يصل الطيف بالفردوس».
فيما بقية القصائد تحتفي بثيمات السيد وبأشيائه وبعض من تفاصيل حياته من قبيل قصيدة «كأس المقام» تتحدث عن حظوة السيد لدى أهالي سترة أما قصيدة «أيقونة البيت» فعن عمامته الطويلة وكيفيه لفها على طريقة السيد وهي تمثل أيقونة البيت... في حين أن قصيدة «ألق» فهي عن كتاب «حصائل الفكر» للسيد الذي أثار كثيراً من السجال ثم تراجع عنه... أما قصيدة «عناوين للنسيان» فعن علاقة السيد بوالده ولكن بالتجاور لا بالتحاور تحت الثرى:
«رأيتهم
متجاورين غير متحاورين
متلاصقين غير مكترثين
تنهشهم الوحشة في الغفوة الأبدية»
أما في قصيدة/ شذرة «استعانة» فتصور قدرة السيد على تبرير غواياته بالشعر والأدب:
«كلما استمالته غواية
نصب الشعر غافراً لخطاياه».
وكما للسيد النصيب الأوفر من القصائد فإن لأبيه حصة من المولد له قصيدة بعنوان «جدي لأبي» وهو الذي أنجز ما لم يستطع إنجازه الآخرون وأكمل المهمة وانطفأ وهو في أوج لمعانه. في هذه القصيدة حكاية طويلة لكنها مركزة بمنطق الشعر وكثافته لكنها معبرة:
«تقدم أيها الراوي المعمد بالحجب
وأملأ الأمل الجامح
أغدق علينا وجهه المليح، الغائب في السديم
افتح دفتره المغموس بحبر الحق
اخبرنا عن طوافه الذي ذرع الأرض شبراً شبراً
أحصى النخيل تمرة تمرة
والينابيع قطرة قطرة
ثم قال:
كتبت لكم إرثاً سماوياً
وتركت لكم المفتاح على سدرة المنتهى».
وتذهب بقيه القصائد عميقاً في تشخيص مستلزمات السيد وأشيائه في قصيدة «إشارات السيد»:
«محبرة باركر وقلم ونشافة حبر وختم وثقالة وحقيبة سوداء وسكين» أما علاماته وفقاً لقصيدة «علامات السيد» فهي:
«قميص وجبّة وعمامة وكوفية وعباءة ونعل وأخيراً كفن مكفول في مشهد وصية رؤى المنام يحمله بساط الريح، أمانة تصل فور إعلان الولادة».
في القسم الثاني من الديوان وهو بعنوان (بهجة البيت) ويتكون من 15 قصيدة متفاوتة الطول وتتراوح مابين البوح الذاتي والزمن الجميل وذكريات تتراءى أمام المخيلة وتسير على منوال القسم الأول في التعابير والصور والإيحاءات، والمزاوجة بين ما هو شخصي وما هو عائلي وخاصة فيما يتعلق ببهجة البيت بالمعنى الحصري وفقاً للشاعرة وهي أمها.
في القسم الثالث وهو بعنوان «أريجة البيت» ويتكون من قصائد تصف بيت السيد وحجراته وفقاً لمسمياته، أو ما يحلو له أن يسميها ويختار لها من أسماء. وكل ذلك بلغة شاعرية متميزة تتسم بالشفافية والسهولة دون الوقوع في الابتذال، وفي الوقت نفسه بعيد كل البعد عن الغموض المفتعل.
ديوان جدير بالقراءة فيه لآلئ كثيرة وشعر رقيق، لا تكفي مقالة عابرة للاستحواذ عليه أو إعطائه حقه.