خلال ساعة من المشاهدة تستطيع أن تتعرف على حياة الأديبة مي زيادة، وهو الوقت اللازم لمشاهدة الفيلم الوثائقي «فراشة الأدب... مي زيادة» الذي أنتجته قناة الجزيرة الثقافية هذا العام (2016) وبثته قبل شهر تقريباً.
يحكي الفيلم معاناة زيادة بالدرجة الأولى، على رغم أنه يبدأ بالحديث عن دورها في الساحة الثقافية من خلال الراوي تارة، ومن خلال عدد من الضيوف المهتمين بالأدب والفن والمنشغلين به وبعض من أفراد عائلتها تارة أخرى؛كالشاعر اللبناني هنري زغيب، والناقد والكاتب حسام عقل، والشاعر والناقد الأدبي عادل جلال، وأستاذ الأدب العربي في جامعة القاهرة حسين حمودة، والكاتبة والباحثة في الشأن النسوي رنيم العفيفي، وغيرهم، ومن خلال بعض المشاهد التمثيلية التي أدتها الفنانة ابتهال الصريطي.
يبدأ الفيلم بمشهد مي زيادة وهي في مستشفى العصفورية الذي اعتبر سجناً لها وليس مكاناً للعلاج، وهي تتلو عبارتها الشهيرة: «أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأداواتي وكتبي ودراستي، وقد انصرفتُ بكل تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة المثالية التي حييتها جعلتني أجهل ما في البشر من دسائس. أجل كنت أجهل الدسيسة وتلك النعومة التي يظهر بها بعض الناس ويخبئون السم القتال».
زيادة بحسب ضيوف الفيلم، كانت من أوائل من استخدم مصطلح «الأدب النسوي»، كيف لا وهي تعتبر وليدة مرحلة خطرة في تاريخ المرأة، إذ جاءت بأفكار متحررة حول المرأة ودورها وتعليمها وحقوقها، وكانت تترجم الأدب من الألمانية والإيطالية والفرنسية، فأدخلت إلى الأدب العربي لوناً جديداً لم يكن منتشراً في مجتمعها. وكما يقول عادل جلال: «إنها كانت تجيد تسع لغات؛ ما ساعدها في تطوير قراءاتها وكتاباتها، ومن الواضح أنها كانت سيدة تعشق الاطلاع وتخشى الكتابة». أما حسين حمودة فقد ذكر أن هذا التعدد في هويتها جعلها غير مستقرة فخاضت الكثير من الإشكالات فيما يخص الشرق والغرب.
وبحسب هويدا صالح، فإن مي زيادة لم تنظّر أبداً في الأدب النسوي، ومع ذلك حُسبَت عليه بسبب شخصيتها الرافضة للنظرة السائدة للمرأة والتي كانت تنادي بحريتها ومشاركتها في كل مجالات الحياة.
وقد اهتم الفيلم بإظهار فرادة زيادة الأنثوية في عصرها الذكوري، إذ جاءت في فترة كانت هي الوحيدة تقريباً التي تنادي بحرية المرأة وقد ساعدها في انتهاج هذا الطريق لقاؤها بهدى شعراوي التي رافقتها لفترة من الزمن. كما ذكر أنهاجاءت لمصر في فترة كانت النساء فيها تحتفي بـ» نبوية موسى» كرائدة لتعليم المرأة وكانت في هذا الوقت تدرس البكالوريا، لكن مي زيادة كانت قد سبقتها في إنهاء دراستها ومعرفتها بلغة أخرى غير العربية.
كما ذكر ضيوف الفيلم أن مي زيادة لم تكتب في بداية حياتها باسمها، وهو ما عرف عنها من خلال سيرتها، لكنها نشرت أول كتاب باللغة الفرنسية ووقعته باسم «إيزيس كوبيا»، وهذا الاسم ليس ببعيد عنها إذ إن «إيزيس» مأخوذ من الأسطورة الفرعونية و «كوبيا» تعني زيادة. وكان سبب استخدامها الاسم المستعار بحسب الضيوف هو ضمان حرية التجديد ولأنها لم ترد لاسمها أن يكون شفيعاً لنصها، فكتبت باسم مستعار كي تتأكد من إعجاب الناس بأحرفها بعيداً عن إعجابهم بشخصها.
في الفيلم تحدث أهل مي زيادة عن عزلتها منذ طفوتها بسبب دراستها في مدرسة الراهبات، وأنها كانت تجلس تحت السنديانة حين تزور بيروت لتقرأ على رغم صغر سنها.
كما تحدّث عن صالونها الأدبي الذي كان يؤمه خيرة الأدباء في ذلك العصر كأنطوان جميل، والعقاد وحافظ ابراهيم وخليل مطران وطه حسين وغيرهم، فكانت تستقبلهم بالعود أحياناً وبالإصغاء لكتاباتهم أحياناً أخرى، كما أنها كانت تمتلك قدرة هائلة على إدارة فعاليات الصالون وما يحتويه من نقاشات وصدامات فكرية؛ ما أدى إلى أن يكون للمكان معنى مهماً وقيمة كبيرة، على رغم ظنون مرتادي الصالون بأن مي زيادة تحبهم أو أنهم يحبونها، ولهذا كثرت الأقاويل حول علاقاتها الشخصية، لكنها لم تحب إلا رجلاً واحداً وهو جبران خليل جبران.
ذكر الفيلم علاقتها بجبران خليل جبران بشيء من التفصيل، بعض الضيوف ذكر أنها علاقة حب متبادل، فيما ذهب آخرون إلى اعتبارها حباً من طرف واحد، وخصوصاً أن جبران لم يكن يكتب لها حبيبتي بل كان يبدأ بصديقتي أو عزيزتي أو صغيرتي وعللوا ذلك لكثرة علاقات جبران العاطفية ولأنه لم يطلب منها الزواج أو اللقاء ولو لمرة واحدة طوال فترة مراستلهما التي امتدت لتسعة عشر عاماً تقريباً.
كما تطرق الفيلم لانتكاستها النفسية بعد وفاة أبيها في العام 1930 ووفاة جبران في العام الذي يليه ثم وفاة والدتها في العام 1932؛ ما أدى إلى إصابتها بانهيار عصبي أدخلت على إثره مستشفى العصفورية حيث كانت «تموت شيئاً فشيئاً» كما كتبت: «أنا هنا أموت شيئاً فشيئاً، كانوا في زيارتهم النادرة يستمعون إليَّ ببرود، أصف لهم شقائي وكنت أرجوهم أن يخرجوني من العصفورية لكن من دون جدوى.
وذكر الفيلم خذلان الوسط الثقافي لها قبل أن يتدخل أمين الريحاني ويطالب بإخراجها من العصفورية، ثم تقام الحملات الإعلامية من أجل ذلك إلى أن يعاد الكشف عليها، فتخرج من هناك إلى مصحة الجامعة الأميركية ثم إلى بيت صغير في بيروت قبل أن تنتقل إلى مصر حاملة معها اكتئابها وشيئاً من انفصام الشخصية الذي شُخِّصَت به؛ ما أدى إلى ابتعاد مرتادي الصالون عنها بعد أن انزعجوا من كآبتها ووحدتها وشرودها.
توفيت مي زيادة في العام 1941 حين كان الجميع مشغولاً بأخبار الحرب العالمية الثانية، ولم يرثِها أحد إلا بكلمات نادرة ومشى خلف جنازتها ثلاثة أشخاص فقط كما ذكر الفيلم ما اعتبر إدانة للمجتمع الثقافي المصري آنذاك .
الفيلم كان جميلاً ولو أنه زاخر بالكآبة؛ إذ ركز على الحالة النفسية لزيادة، فيما أهمل طفولتها وبعض المحطات الأخرى في حياتها. وقد وفق المخرج وكاتب السيناريو محسن عبدالغني في اختيار الإسم، ليظهر كيف أن مي زيادة كانت فراشة أحرقها ضوء الحرية حين كانت سبباً في سجنها من قبل ذويها الذين لم يتفهموا شغفها بالنور، وقتلها خذلان من حولها حين لم يدافع عنها أهل الأدب والثقافة، على رغم أنها كتبت في آخر أيامها: «أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني».