وسط احتراب تمر به المنطقة، وحالة إنهاك للشعب اللبناني منذ الفراغ الرئاسي لأكثر من سنتين، وفشل مجلس النواب في اختيار رئيس بديل بسبب خلافات الأطراف السياسية، وعدم إجماعهم على مرشح مسيحي، وسط كل ذلك؛ يبرز الحدث الذي احتل منصات الإعلام، ليضفي بُعداً تراجيديّاً للمشهد السياسي اللبناني، نقصد بالطبع إعلان سعد الحريري زعيم «تيار المستقبل» أكبر كتلة برلمانية سنية في البرلمان ترشيحه لخصمه العماد ميشال عون رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» لرئاسة الجمهورية وهو بالمناسبة مرشح «حزب الله» في إطار صفقة سياسية. ومنه يجوز السؤال؛ هل يعكس قراره توازنات محلية متأسسة على توافقات إقليمية؟ الجواب لا؛ لا يبدو الأمر كذلك.
فالرواية السياسية المعلنة القائلة إن ذلك حدث لمصلحة لبنان، ولمعالجة استعصاء ملف انتخاب الرئيس بالقبول «بتسوية سياسية»، تخفي في جوفها حكاية، وربما حكايات متناقضة، قد يزاح الستار عنها مع نهاية الشهر الجاري، عند وصول رئيس جديد، جهد بدأب للتربع في قصر بعبدا. بالطبع الجميع يدرك أن طريق الوصول إلى القصر كانت ولاتزال مليئة بالألغام ومكبلة بالتنازلات والتسويات، وأن المشهد يختصر لحظة سياسية تاريخية بامتياز، لها صلة بالنزاعات الأهلية، وصراع الإرادات الإقليمية والدولية؛ بل وتدخلاتها قبل وبعد اتفاق الطائف.
نضج سياسي أم استسلام؟
تباينت الآراء والتوصيفات للخطوة الحريرية، البعض وجدها تعبيراً عن تكاذب سياسي واستسلام مكابر، آخرون وصفوها بالمغامرة السياسية، وأنها تمرد وانقلاب على تحالفات الحريري السابقة، إذ تمت خارج إطار التفاهمات الإقليمية والدولية، بل هناك من أشار إلى رفض دولي تحديداً أميركي - فرنسي وعدم رضى سعودي، مستندين في ذلك إلى تصريح وزير الخارجية الأميركي جون كيري وتحذيره «نحن نأمل أن يحدث تطور في لبنان، لكنني لست واثقاً بنتيجة دعم الحريري (...)... لا أدري ... نحن نأمل أن يتمّ تجاوز هذا المأزق الذي يؤثر على لبنان والمنطقة».
على النقيض تؤكد أطراف مقربة من الحريري أن إعلانه تم بضوء أخضر أو بشبه حياد سعودي وخليجي وغطاء إقليمي ودولي، بيد أن اللافت، قراره أثار امتعاضاً وغضباً من مؤيّديه قبل الآخرين، وأشارت التقارير إلى أن قراره حدث في لحظة نادرة بالوقت الضائع إقليميّاً، وخصوصاً وقد ارتكز على تفاهمات وتوازنات محلية في إطار تحالفاتها الإقليمية، فقد بدأت بين «التيار الحر» و»حزب الله» ومنذ استدارة سمير جعجع (القوات اللبنانية) لمصلحة عون، كما جاءت ردّاً على ترشيح الحريري لفرنجية قبل عام، وتفاهمات سابقة بين «الحر» و»المستقبل»، فكل هذا الحراك الثنائي يعبر بهذا الشكل وذاك عن طبيعة المكونات اللبنانية في سماتها واختلافها وتناقضها ومصالحها السياسية، وديناميتها في إدارة الخلاف والتموقع مجدداً في الخريطة السياسية.
في السياق ناقشت تقارير إعلامية عدة، أسباباً مرتبطة بما سبق، أبرزها يعود إلى ضعف هوامش المناورة المتاحة للحريري وفق المستجدات وما تعرضت له مشاريعه التجارية وتنظيمه السياسي من خسائر مادية، ولاسيما توقف العطاءات عن شركاته التي لم تسدد مستحقات بعضها المالية المقدرة بمليارات الدولارات وبعضها وصل إلى الإفلاس والعجز في تسديد معاشات الموظفين، إن ذلك تفاعل لاشك مع عوامل أخرى لم تكن لصالحه كالأزمة السورية وانعكاساتها على دول الإقليم، منوهين إلى أنه لم يكن حاضراً بقوة لإنجاز الواجب عليه من مهمات، إضافة إلى افتقاره إلى الخبرة وتغلب المصالح الشخصية للبطانة من حوله ناهيك عما كشف من قضايا سرقات وهدر بالملايين من الأموال المنهوبة.
رهان الرئيس القوي
لجهة تداعيات قرار الحريري، فالمتوقع أن اللعبة السياسية ستعيد إنتاج الطبقة السياسية الطائفية بتعديل في تحالفاتها واحتفاظها بمصالحها، وعلى رغم وجهة نظر المتفائلين بأنَّ القرار يعبِّر عن نضج سياسي ومسئول، قد يخلِّص لبنان من التبعية والإملاءات الخارجية، ويدشن لنمط جديد من المرجعيات الخارجية بسبب اختلال العلاقات والتوازنات الإقليمية القائمة، إلا أن بورصة التوقعات اللبنانية لاتزال غامضة على رغم أرجحية انتخاب عون رئيساً وبقوة في (31 أكتوبر/ تشرين الأول)، أما الأصوات التي سينالها تبعاً لتسريبات إعلامية ومواقف معلنة، فيتوقع ألا تقل عن «84» صوت نائب برلماني وربما «88» مقابل «38» صوتاً ضده، بسبب تمرد وحرد نواب من «كتلة المستقبل» على رأسهم فؤاد السنيورة وأحمد فتفت وغيرهما، وهناك من صرحوا عن نيتهم إلقاء ورقة بيضاء في صندوق الاقتراع، إذا لم يصوتوا لمنافسه سليمان فرنجية وخصوصاً الذين يرفضون الخيارين معاً، وفي السياسة للورقة البيضاء مخاطرة كثيرة.
جبهة معارضي عون لاتزال تتسع على رغم التعبئة والزيارات المكوكية لعون، وهي تشمل نواباً من «الكتائب» وكتلة وليد جنبلاط والنائب طلال أرسلان من الدروز.
الأهم، كتلة زعيم «حركة أمل» نبيه برى رئيس البرلمان الذي أعلن معارضته بعد التسليم بتتويج عون رئيساً، وصرح بأنه سيقترع لسليمان فرنجية، لكن تحليلات إعلامية ترجح أن تأثير هذه المعارضة محدود بمجالها المحلي فقط.
ما يعني وحسب المعادلات الحسابية عون صار ضامناً للنصاب الدستوري بحضور الثلتين وتصويتهم إلى جانبه، لكن معترضي التسوية الرئاسية يعملون بهمة ونشاط على إفشالها وتعريتها ضمن خطة لجرّ عون إلى دورة ثانية يفوز فيها بالحدّ الأدنى المطلوب، وألا يخرج منها بالقوة التي يظهر فيها وكأنه «الرئيس القوي»، وذلك عبر حشد أصوات النواب الرافضين أو شراء بعضها بغية تقليل عدد الأصوات المؤيدة للجنرال وتسجيل «غياب الإجماع الوطني» بشأن وصوله للرئاسة، وإن الاعتراض عليه كبير ومن داخل مجلس النواب. يرتكز هؤلاء كون الانتخاب الرئاسي يجري دون راع إقليمي أو دولي، وأقلها أن يحوز الرئيس تأييد أوسع شريحة من القوى السياسية والطوائف، وهذا مفقود بحسب رأيهم وخصوصاً مع الشكوك الدائرة بشأن وجود تفاهمات جانبية وخاصة بين «الحريري وعون» على رغم تأكيد الأخير أن«كل الكلام عن تفاهمات وصفقات واتفاقات وأوراق موقعة غير صحيح ولا أساس له».
خلاصة الأمر ما يحدث في بازار «انتخاب كرسي الرئاسة» اللبناني، هو إفراز لطبيعة النظام البرلماني الغنائمية، صحيح أن هذا النظام يكشف عن هامش من التعددية والممارسة الديمقراطية النسبية، إلا أنه يعبر عن نظام قائم على نفوذ الطبقة السياسية الطائفية التقليدية المتحالفة مع نخب رأسمالية في إطار «نظام سياسي طائفي» وحالة غنائمية تمارسها الطوائف السياسية باحتراف، ضمن دولة زبائنية تعاني من الترهل والضعف في هياكلها ومؤسساتها، والدولة هنا تستخدم كأداة مباشرة في إعادة إنتاج الزعامات نفسها، وتعيد إنتاج النظام بتوريث هذه الزعامات.
إن ممارسات البازار، ليست وليدة اللحظة فهي متوارثة عبر أجيال، ومنذ اعتماد نظام القائمقاميتين ونظام المتصرفية «كصيغتين طائفيتين» لإدارة الحكم في جبل لبنان تحت السلطنة العثمانية التي تعتبر مصدراً تاريخيّاً مباشراً لهذه الطائفية السياسية، وقد تواصل اعتمادها مع الانتداب الفرنسي وفي فترة الاستقلال وحتى اللحظة. من أسف يبقى المواطن متفرجاً لا صوت وازناً له ولا يحزنون، لبنان يتجه نحو مزيد من الفوضى، إذ لا صوت يعلو في المعركة على صوت الطوائف والمذاهب والملل ومصالحهم.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5163 - الثلثاء 25 أكتوبر 2016م الموافق 24 محرم 1438هـ
سعد الحريري
اكثر شخص مايفهم بالسياسة وتسليمه لرئاسة الوزراء للمرة الثانيه على التوالي ياخذ لبنان لنفس الظروف ولكن نبقى متفائلين لوجود حزب الله وكل المتحالفين معه فهم صمام امان ودعم قوي للبنان ولولاهم لماصمد لبنان في وجه العواصف