انتقلت حكومة أرييل شارون من حصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات سياسياَ إلى محاصرته شخصيا في مقره الرئاسي في رام الله.
يأتي هذا التصعيد في فضاء دولي هائج تقوده الولايات المتحدة. وعندما تضرب القوة الأولى في العالم «الهستيريا» ويتداخل مرض العظام (الاحساس بالتفوق) مع الهواجس والمخاوف (الاحساس بالضعف) لا عتب إذا على حلفاء أميركا وأدواتها في ان تشعر بالقوة وتبدأ بالاستقواء على غيرها مستفيدة من غضب القوة الكبرى وجنون عظمتها.
فشارون الذي حلم بوجود حليف ولو صغير له في العالم وجد نفسه محاطا بأقوى حليف في الكرة الأرضية يبرر له أفعاله ويغذيه بالتصريحات النارية ويمده بالمعلومات والسلاح وعناصر الجنون وأدوات الحرب والقتل.
شارون قبل بوش بذل المستحيل لاسترضاء الإدارة الأميركية السابقة التي لم تستسغ قبوله مع عشرات المجازر التي ارتكبها في حياته العسكرية ضد المدنيين. وشارون كان يطالب البيت الأبيض بكوب صغير من الماء فجاء بوش الابن وأعطاه «براميل» ماء تفوق حاجته وأحيانا يبدو غير قادر على شربها ويحتاج إلى وقت لهضمها.
بوش أعطى شارون أكثر مما يريد. أعطاه إلى درجة «أحرجه فأخرجه». أخرجه من طور قراءة المصالح والحسابات السياسية إلى طور الانقلاب على كل المصالح والحسابات، دافعا المنطقة دفعا نحو مواجهة كبرى تقوم الولايات المتحدة بتنفيذ الجزء الأكبر من مهماتها القتالية والعسكرية. فحين يغضب رئيس القبيلة (أميركا) ويخرج عن طوره فلماذا لا يجن ابن القبيلة ويجر العالم العربي إلى حال نزاع يبدأ بالقليل ولا يعرف أين ينتهي؟
وإذا كان رئيس القبيلة يريد من المنطقة النفط والسلاح فلماذا يتردد ابنها في الإفادة من كل عناصر الغضب لتحقيق غايات خاصة لا تحترم في النهاية مصالح الشقيق الأكبر.
وهذا جانب من جوانب «سخرية» القدر. شارون صعد إلى رئاسة الحكومة الاسرائيلية لأنه رفض القرارات الدولية واحتج على مشاركة دولته في مفاوضات مدريد ودان اتفاق أوسلو حين وقعه رابين - بيريز مع عرفات بإشراف بيل كلينتون في البيت الأبيض.
وشارون صعدت شعبيته وانتخبه ناس «إسرائيل» لأنه رفض نظرية بيريز الاقتصادية عن «إسرائيل» درة تاج السوق الشرق الأوسطية وأكد نظرية «القلعة» المحاطة بالخصوم وتتعاطى مع محيطها بالسلاح وليس بالمال والتجارة.
عرفات فعل العكس. أيد القرارات الدولية، وشارك في مفاوضات مدريد، ووقع اتفاق أوسلو، وقبل كل ما طلبته منه الولايات المتحدة... وكاد عرفات ان يخسر نفسه بعد ان خسر الغالبية الكبرى من شعبه.
ومع ذلك يحمّله بوش مسئولية تدهور العملية السلمية في الشرق الأوسط، ويؤيد شارون راعي الآلة الحربية التي يراهن عليها الرئيس الأميركي لتغيير خريطة الشرق الأوسط.
هذه هي السخرية التي وصلنا إليها. من يؤيد القرارات الدولية والعملية السلمية يتهم بالارهاب أو رعايته على الأقل ويطالب بمحاربته. ومن يعارض القرارات الدولية والعملية السلمية تضعه الإدارة الأميركية في موقع خاص في لائحة الأصدقاء وتعطيه المزيد من القوة والمال وتشجعه على المضي بدعوته مستخدما قوتها وغضبها.
عرفات مهما فعل تطالبه أميركا بالمزيد. وشارون مهما أطاح بمشرعات أميركا وخططها يعطيه البيت الأبيض المزيد من القوة ليزيد من عناصر تمرده وشغبه.
هذه المعادلة المقلوبة افسحت المجال للتطرف وغذته بمصادر القوة والتماسك وأعطته المزيد من المبررات لينعطف نحو الجنون الكامل. وحين تجن المنطقة ظلما وقهرا من سياسات شارون وتغطية واشنطن لكل خطواته تصبح اللحظة مؤاتية مما برى شارون لضرب «الضربة».
بدأ شارون بمحاصرة عرفات شخصيا بعد ان حاصره سياسيا والآن يبدأ شارون بتشجيع من «صقور» البيت الأبيض والبنتاغون بمحاصرة المنطقة تمهيدا لحصارها... العسكري هذه المرة.
ولكن من قال ان الحسابات الدقيقة تصيب دائما. فهناك من كل مليون إجابة صحيحة واحدة خاطئة. وخطأ «الشاطر» يساوي مليون غلطة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 16 - السبت 21 سبتمبر 2002م الموافق 14 رجب 1423هـ