في أواسط يونيو/ حزيران من العام الماضي 2015، وأثناء مشاركة الرئيس السوداني الجنرال عمر البشير (72 عاماً في العمر، 37 في الحكم) في القمة الإفريقية التي استضافتها جنوب إفريقيا، هبت عاصفة سياسية احتجاجية محلية ودولية تطالب جنوب إفريقيا بتسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية، على خلفية توجيه هذه المنظمة القضائية الدولية اتهامات إليه بارتكاب جرائم حرب، وأعمال إبادة جماعية ضد الإنسانية في دارفور، بموجب مذكرتين صدرت بحقه من المحكمة العام 2009، وباستثناء زيارته عددا محدودا من الدول الإفريقية والعربية، واجه هذا الرئيس السوداني العربي عزلة عن دول العالم في القارات الخمس؛ لإحجامها عن استضافته، إثر صدور تلكما المذكرتين، وقد قدمت هذه المحكمة الدولية طلباً رسمياً بالفعل بهذا الشأن، وقام مكتبها في جوهانسبرغ بمتابعة الطلب مع حكومة جنوب افريقيا أثناء القمة، باعتبارها إحدى الدول الموقعة على قانون هذه المحكمة الدولية من مجموع 123 دولة انضمت إلى هذا التوقيع حتى وقتذاك.
وفي خضم هذه العاصفة، وبينما القمة منعقدة بحضور مايقرب من رؤساء وممثلي 52 دولة إفريقية، وعدد كبير منهم متورطون في جرائم حرب وإبادة لا تقل إن لم تزد على الجرائم المتهم بها البشير، لكن لا تستطيع المحكمة الدولية المطالبة بتسليمهم؛ لعدم انضمامهم للمحكمة الدولية وعدم وجود لوائح اتهام ضدهم، قرر القضاء الجنوب افريقي ممثلاً في إحدى محاكمه الوطنية عدم مغادرة الرئيس السوداني أراضي جنوب افريقيا قبل البت في كيفية تنفيذ مذكرتي الاعتقال الصادرتين بحقه من محكمة الجنايات الدولية، والطلب المقدم منها إلى حكومة جنوب افريقيا بهذا الصدد.
وبين شد وجذب بين الجهات التنفيذية والقضائية في الدولة المضيفة، وضغوط عربية وافريقية عليها تحذرها من مغبة تسليمه، وبينما العالم أيضاً برمته حابس أنفاسه ليعرف مصير رئيس هذه الدولة العربية الإفريقية الكبيرة، وعما إذا ستسلمه جنوب افريقيا بالفعل للمحكمة، وتفي بما تعهدت به ووقعته على ميثاقها وقانونها، وإذا بالعالم يتفاجأ بخبر وصول البشير كالأسد الى مطار عاصمة بلاده، مُبتهجاً ضاحكاً ملوحاً بعصاه إلى السماء، وهو يُحيي مستقبليه، وكأن هالة من أكاليل النصر تحيطه، وهو يهبط من سلّم طائرته الرئاسية وسط هتافات وتكبير عشرات من وزرائه وحاشيته ومحازبيه في المطار، الذين جاؤوا للترحيب بعودته الميمونة سالماً.
وماهي إلا أيام قلائل من استمرار تداعيات الأزمة، وردود الفعل على عودته المباغتة إلى بلاده دون تسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية، حتى هدأت العاصفة وظن العالم والمراقبون الدوليون أن صفحة هذه الأزمة التي مر عليها الآن أكثر من عام و4 شهور قد طويت بلا رجعة، ليتفاجأ العالم من جديد قبل أيام بخبر انسحاب جنوب إفريقيا من المحكمة الدولية على خلفية الأزمة ذاتها.
شكل تأسيس محكمة الجنايات الدولية العام 2002، استناداً لموافقة الجمعية العامة للامم المتحدة على ميثاقها أواخر تسعينات القرن الماضي، انتصاراً وتطوراً للإرادة الانسانية الخيّرة، تعكس ما بلغه الفكر الحقوقي السياسي الإنساني الدولي من تطور على الصعيدين التشريعي والتطبيقي؛ أي بترجمة واحدة من رزمة الحقوق الانسانية المقرة دولياً في عدد من مواثيقها واتفاقياتها (جرائم الحرب والإبادة التي ترتكبها الدول على الأراضي التي تحت سيادتها أو خارجها) في آلية أداتها الممثلة في محكمة الجنايات، لكن المفارقة أن كثيراً من أعضاء الاُمم المتحدة، ومن بينها دول كبرى كالولايات المتحدة التي تتشدق بالديمقراطية وحقوق الانسان، لم تنضم بعد إليها، بينما كثير من الدول التي انضمت إليها لا تدرك أو لا تريد أن تتحمل تبعات تعهداتها بعد انضمامها لهذه المحكمة، وآخرها جنوب افريقيا، علماً أنه لا يعني مثول أي رئيس دولة أمام هذه المحكمة ادانته بالضرورة بالتُهم الموجهة إليه، فالمثول أمام المحكمة دليل على شجاعة المتهم وثقته ببراءته، بل وحتى حقه في الطعن في عدالتها لو شاء ذلك، لكن تهربه من المثول أمامها بحجة عدم عدالتها أو حفاظاً على مقتضيات «هيبته» و»سيادة» دولته، إنما يعزز الظنون دولياً في صحة الاتهامات الموجهة إليه.
لقد مثّلت جنوب إفريقيا منذ انتصارها البطولي الملحمي على نظام «الابارتايد» العنصري مطلع تسعينات القرن الماضي بقيادة بطلها ومناضلها العالمي الراحل نيلسون مانديلا، أول رئيس مُنتخب يمثل الغالبية الساحقة السوداء من شعبها الأصلي، منارةً وقدوة لكل شعوب العالم المتطلعة للحرية والعدالة والمساواة، ليس على صعيد القارة الإفريقية المبتلاة الغالبية العظمى من دولها بحكام فاسدين واستبداديين، بل وعلى الصعيد العالمي بأسره، ولذا فحينما يبرر اليوم وزير عدلها مايكل ماسوتا قرار بلاده بالانسحاب من المحكمة الدولية؛ لكونها تستهدف القارة الإفريقية، وهو يعلم بأن قارته هي أكثر قارات دول العالم رؤساء دولها استبداديون، فهو اتهام يشكل إساءة لتاريخ نضال شعبه الناصع القدوة، ولنظامها الديمقراطي المفترض، وهذا ما أكدت عليه منظمة «هيومن رايتس ووتش» عن حق، حينما وصفت انسحاب جنوب إفريقيا بأنه «يظهر تجاهلاً من العدالة من دولة اعتبرت رائدة عالمياً في المحاسبة على جرائم فظيعة»!
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5162 - الإثنين 24 أكتوبر 2016م الموافق 23 محرم 1438هـ
كنّا نعلق أمآل على الرئيس السوداني بداية التسعينيات لكنه ما لبث ان اصبح كغيره من الرؤساء