في العودة لبعض الممتلكات القديمة إشعالٌ للحنين. استرجاعٌ لأحداثٍ مهمة، بعضها مليءٌ بالفرح، فيما يشوب بعضها الآخر بعض حزنٍ لا يدوم. عودةٌ لزمنٍ نتمنّى لو يعود بما يحمله من شخوص غابوا وآخرين غيّبهم القدر.
في العودة لبعض الصور، لبعض الكتب، لبعض المقتنيات، استنهاضٌ لذاكرةٍ غافية. ذاكرةٌ مموهةٌ لا تكاد تبدو منها إلا ألوان شتى وصور غير واضحة المعالم. ذاكرةٌ ضبابية، مغبرة، نمسحها على مهل ونحدّق بها إلى أن تتضح، فتعيدنا إلى عهدٍ سابقٍ يجعلنا نبتسم، نفرح، أو نتنهّد تنهيدة حزنٍ على من رحلوا أو على زمنٍ لن يعود.
تناوبتني كل هذه المشاعر وأنا أسلّم طفلتي بعضاً من كتبي التي طالما اعتبرتها كنزاً لا يجب التفريط به، إلا لطفلٍ يقرأ بشغف. كنت غارقةً في ذاكرتي وأنا آخذها من رفوف المكتبة العليا، وأزيل عنها ما قد يكون قد علق بها من غبار، وأتصفح أوراقها الصفراء وبعض أغلفتها الممزقة قليلاً، وتلك التي ثبّتت بشريطٍ لاصق مصفرّ بعد أن أعرتها صديقة طفولة وأعادتها إليّ ممزقة.
تذكرتُ كيف أن هذه القصص، وهي مجموعة قصص المكتبة الخضراء الصادرة عن دار المعارف، كانت تجوب بيوت الحي. تستعيرها صديقات طفولتي وأخواتهن اللاتي يكبرننا بخمس سنوات أو يزيد. كنتُ كلما اشتريتُ واحدةً منها شعرتُ بالسعادة الغامرة، أقرأها في جلسةٍ واحدةٍ وأعيرها لمن تريد قراءتها من بعدي، حتّى قمتُ بعمل جدولٍ لترتيب الأسماء في كل مرة تحجز فيها فتاة أو طفلة الكتاب وأنا أقرأه. ولأن بيوتنا كانت مفتوحة للجميع، ولأن منزلنا عامرٌ بالزوار في كل وقت، كان لابد أن يشاهدن قصتي الجديدة التي أشتريها في كل مرة أذهب مع أمي إلى السوق، وكنت كلما تفوّقت في المدرسة طلبتُ مكافأتي من أمي وأختي الكبرى مجموعةً من هذه القصص وغيرها كسلسلة «حكايات مخدتي» الصادرة عن دار ومكتبة الهلال، و«حكايات جدي» الصادرة عن دار البحار، وسلسلة «أساطير من زمان» الصادرة عن دار الفكر اللبناني، ومجموعة عبد التواب يوسف «من كل بلد عربي قصة»، ومجموعة دار الكتاب العالمي التي كانت تنشر قصصاً من كل الحضارات والدول، وسلسلة «مكتبة الطفل العربي» الصادرة عن دار الجيل، و«حكايات البراعم» عن دار الأندلس، و«قصص المكتبة الذهبية» وغيرها الكثير مما لا يسعفني الوقت ولا المساحة لذكرها.
كل كتابٍ من هذه المكتبة له قصة، منذ رحلة البحث عنه مروراً بشرائه وقراءته وتجواله في بيوت الحي وعودته إلى مكتبتي من جديد. جالت بخاطري كل تلك الذكريات وكل تلك الحكايا، كيف لا ونحن مرهونون لذاكرتنا وكل ما يعيدنا لسنوات طفولتنا ولـ «الزمن الجميل» و«زمن الطيبين» وغيرها من المسميات التي أطلقناها على تلك الحقبة من حياتنا.
في تصفح كتب الطفولة، أو تقليب بعض مقتنياتنا القديمة، أو مشاهدة بعض مسلسلات الكرتون أو سماع أغنية قديمة... نعود بذاكرتنا للزمن الذي لا يعود إلا من خلالها، فنبتسم وتغمرنا حالةٌ من الحنين لن يفهمها إلا من عاش معنا تلك اللحظات.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 5162 - الإثنين 24 أكتوبر 2016م الموافق 23 محرم 1438هـ
الماضي جميل أستاذة سوسن ودائما ما سبق افضل من الحاضر المادي البحت الجاف