يُمتِعك وهو يغنّي للسلام، يؤانسك وهو يتحدّث كأنّ كلامه تغريد الحمام، يُثلِج صدرك وهو يعالج قضايا الفن والثقافة من منظوره كمحب للسلام، لسانه يقطر شعرا، أجوبته تجمع بين رصانة العقل وسحر البيان، فلسفته الخلود في الكلمة في الشعر في الأغنيات، باختصار؛ يحبّ الموت لأنه يشجعه على الحياة، ذلك هو ضيف مملكة البحرين في افتتاح مهرجان البحرين الدولي للموسيقى في دورته الخامسة والعشرين، ذلك هو لطفي بوشناق الملحن والمطرب التونسي، العربي والعالمي؛ طربٌ لا حدود له وإبداعٌ سافر في الزمان والمكان حتّى اخترقت موسيقاه الصادقة حدود اللغة؛ لأنها جعلت من الإنسان موضوعا ومن السلام هدفا ومن السعادة غاية.
وهذا نص الحوار:
جمهور البحرين
قدّمتم سهرة افتتاح مهرجان البحرين الدولي للموسيقى وهو يحتفل باليوبيل الفضي بعد مرور 25 سنة على تأسيسه، فماذا يعني لكم ذلك؟ وكيف وجدتم الجمهور البحريني؟
- تحيّة حب صادقة من القلب من تونس الخضراء إلى البحرين، وأحيّي كل من حضر الحفل، وأحيّي بصفة خاصة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار الشيخة مي بنت محمد آل خليفة لاحتضانها هذه التظاهرة الموسيقية العالمية، كما أحيّيها أيضا لأنها منحتني فرصة المشاركة في هذا اللقاء الموسيقيّ العالمي، وأن أعيش معكم هذا النشاط الثقافي الحثيث في البحرين. كما أشكرها ولجنة التنظيم على اختياري لأكون في حفل الافتتاح، وهذا شرف لي، وأتمنّى أني كنت في مستوى انتظار الجماهير التي أسعدني حضورها الغفير.
ذكرت ذات لقاء، معرّفا نفسك، أنّك فنّان تحبّ السلام ليس لنفسك ولكن لجميع الناس على اختلاف ألوانهم ودياناتهم ومعتقداتهم، وأنّك تسعى للعدالة في العالم أجمع، فكيف تجلّى ذلك من خلال أغانيكم؟
- تجلى ذلك في الأغاني التي أديتها من ذلك أغنية (طبعي السلام) وأغنية (خوي الإنسان) ومن كلماتها: «خويَ الإنسان في كل عصر في كل مكان، تتخالف فينا الألوان، والمطامح والأديان، لكن هذا ما يمنعنا من وحدة حب تجمعنا، ونحيا في سلم وأمان، شوف الوجود صورة للحب المنشود، بحري مع بحرك مشدود، طيري يهاجر لك ويعود، عاشق ما تردوش حدود، ولولا المحبة ما غنى، ولا ربطت أوطانك بأوطانا، ولا كانت شمس ولا هوانا، ولَضوّت نجمة في سمانا، من غير محبة وأمان، ما تكون حياة الإنسان، خلي حبك مثل سحابك يهدي الأوطان الأمطار... تلقى حبي وسط ترابك بذرة تهدي لك الأزهار، وإذا نجم الحكمة ضوا، وبيني وبينك نوره سوّى... نشوف صورة آدم وحواء راجعة من عمق الأزمان تحضنا وإحنا إخوان».
هذا إبداع الكلمات فما بالك لمّا ينضاف إليها اللحن والأداء وتغنّى بالموسيقى العالمية بطريقة بتهوفن وموزار... وهي من أهم التجارب التي قمت بها ففيها دعوة للسلام والفن هو أكبر سلاح لنشر السلام.
كونية أغاني بوشناق
يصفكم البعض بالكروان الشادي بأعذب الألحان حتى وإن كان في بلاد الصين أو اليابان، فما السرّ في كونيّة أغانيكم وعالميّتها؟
- الصدق. فعندما تستمع إلى «بوب مارلي» قد لا تفهم من كلماته إلا القليل، وعندما تسمع للباكستاني «نصرت فتح علي خان» قد لا تفهم ما يقول... لكن تحسّ بأغنيته لأنّ كلّ ما هو نابع من القلب بصدق يصل إلى قلوب الآخرين، وبالمقابل فإنّ كل غناء غير صادق يخرج من الشفتين فيدخل هذه الأذن ويخرج من الأخرى. والصدق بشكل عام هو أساس الحياة والعلاقات: الصدق مع الله، مع نفسك مع أمتك، مع عملك، مع عائلتك مع أولادك مع بلادك مع جارك... الصدق أهم صفة يتصف بها الإنسان والفنان هو إنسان صادق أو لا يكون. وهل أصدق من أن تعبر عن هموم الإنسانية؟ وهل أصدق من أن تغني للسلام للحب للخير للإنسان... من هنا لامست تجربتي الفنية العالمية والكونية.
الفنان الصادق
إنّ ما يمرّ به العالم، ولا سيما العربيّ، من خطوب ومحن يؤكّد أنّ العالم حقّا بحاجة إلى فنّان صادق يؤدي واجبه نحو الإنسانيّة؛ فما واجب الفنّان اليوم تجاه الإنسانيّة؟ وما حدود تأثيره فيما حوله؟
- الفنان يلزمه وعي وصدق وقناعة وإستراتيجية كاملة ودعم ماديّ؛ فالأغنية التي تُلحَّن ولا تُصوَّر هي ميتة من يوم ولادتها. نحن نعيش عهد الصوت والصورة، فإسرائيل أقيمت على 3 أسس: العلم والمال والإعلام، والحروب أصبحت تكسب إعلاميا قبل الميدان، وتشويه الحقيقة وتضليل الناس عبر وسائل الإعلام شيء خطير جدا... انطلاقا من هذه المعطيات يصبح الفنان جزءًا من منظومة شاملة.
إنّ خضوع الفنان لسياسات شركات الإنتاج التي تتدخّل في اختياراته الفنية تفقده مصداقيّته فلا يستحق ان تحمل كلمة فنّان، كما الإعلاميّ إذا صار رهينة أوامر مشغله يصبح مرتزقا، وكذلك الفنان لا يليق به أن يصبح رهينة شركات الإنتاج والقنوات الإعلامية التجارية، ولكن للأسف هذا هو السائد.
الغناء من أجل الإنسانية
بعد هذا الرصيد من الغناء من أجل الإنسانيّة، ألا يزال لطفي بوشناق يطأطئ رأسه إلى الأسفل خجلا لكونه عضوا في الإنسانيّة؟
- بالعكس تماما، فهذا لا يزيدني إلا افتخارا وإيمانا، وسأظلّ مغنيّا للحب والسلام، فقد غنّيت هذا العام في افتتاح الدورة 52 لمهرجان قرطاج الدولي مع الأوركسترا السمفوني الأوكراني رسالة للسلام: (هي كلمة باختصار، كلمة لأصحاب القرار، يكفي خلونا نعيش، يكفي ملينا دمار، لا يهم لونك ودينك، لا يسارك لا يمينك، خلوا كل الناس إخوة بالتسامح والحوار، هي كلمة باختصار كلمة لأصحاب القرار، شوفوا كم من أمّة ماتت وكم وراها من رضيع، وشوفوا كم حرب فاتت وكم خلفت مشهد فظيع، وشوفو كم من أمة ضاعت وشوفوا كم أمة تضيع، يا اللي بيديكم طلبنا إحنا ملِّينا تعبنا، يكفي حرب يكفي ظلم يكفي تشريد ودمار هي كلمة باختصار كلمة لأصحاب القرار)، وأنا دائما أسعى لأن أعيش بعد موتي، كيف تعيش بعد موتك؟
سفير للسلام
تمّ اختياركم، منذ العام 2003، سفيرا للسلام لدى منظمة الأمم المتحدة؛ فما الرسالة التي حمّلكموها هذا التكليف الأمميّ؟
- صراحة وبكل صدق أشكر منظمة الأمم المتحدة على أنها منحتني هذه الصفة، وهي تسمية رمزية فقط، علمًا أنّني لست منسجما دائما مع قراراتها حيث حادت عن العدل، من منظوري كإنسان ملتزم بقضايا الإنسان محب للسلام، في أكثر من قرار. وعموما أعتبر نفسي سفيرا للسلام قبل أن تسبغ عليّ المنظمة الأممية هذه الصفة. ومن يدعو للسلام لا ينتظر تسمية ولا تكليفا رسميّا.
أنت لا تلحن ولا تغني أيّ كلمات؛ فالشعراء الذين تعاونوا معك هم أسماء لامعة في عالم الكلمة في الشعر العربي الحديث على غرار أحمد فؤاد نجم وعبدالرحمن الأبنودي، وآدم فتحي من تونس وعزالدين ميهوبي من الجزائر وغيرهم... لكن يبدو أنّ لقاءك الفني مع آدم فتحي مميّز. فما السر في هذا اللقاء؟
- ليس من ذكرت فقط، يجب أيضا أن أحيي من تعاملت معهم من الشعراء وكُتّاب الأغاني مثل: صلاح الدين بوزيان، مازن الشريف، رضا شعير، وحسن شلبي. لكن لآدم فتحي القسط الكبير مما غنّيت؛ لأنّ الثنائيات كانت ومازالت وستظل ذات نتائج إيجابية، فالتعايش بين الفنان والشاعر يساعد الثاني على معرفة مكنونات الأوّل، فيكتب له ما يختلج بصدره. ونظرا للتلاقي الكبير بيني وبين آدم فتحي في الرؤى والإحساس بالإنسان والجمال؛ فهو يكتب المعنى والفكرة والإحساس بالكلمات ودوري كملحّن ومغنّي أن أترجم تلك الكلمات والأحاسيس إلى غناء. وبقدر التعايش بين الشاعر والمغني، يكون النجاح حليف الأغاني المشتركة بينهما. نعم هي الثنائيات فمن ينسى إبداع فيروز مع الأخوين الرحباني؟ وكيف ننسى أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، زكريا أحمد وبيرم التونسي، أحمد رامي ورياض السنباطي... وعودا على السؤال بالنسبة إلى التدخل في الكلمات فإن أغلب الشعراء الذين تعاملت معهم ليس همّهم أن يكتبوا كلمات أغنية حتّى تلحن وانتهى، إنما غايته تخليد كلماته بلحن وأغنية لا نظير لهما.
رسالة بوشناق
تزداد رقعة الانشقاق داخل البلاد العربية بإذكاء جذوة النعرات... فما الرسالة التي يوجهها الفنان لطفي بوشناق؟
- «يا مؤمنون توحدوا، أمر النبي محمد، لا سنة لا شيعة فالله ربّ أوحَدُ، الدين للديان في عليائه»... مهما اختلفنا أحترمك ولا أجرّمك ولا أكفّرك، غنائي دعوة للتسامح بين أتباع الأديان، فما بالك بين أبناء الدين الواحد. ومن مشاكل هذا الجسد العربي الواحد الفتنة الطائفية التي تعصف بسورية والعراق، والفتنة أشد من القتل، فما بالك إذا صار القتل وسيلتها. فأرجوكم ثم أرجوكم «يا مقربين الفجر نوره ومطلع مدوا المسامع في المجامع واسمعوا صرخة مغني الحيّ من جوف العدم اتجمّعوا اتجمّعوا اتجمّعوا».
نحن بحاجة إلى جيل جديد يؤمن بالمواطنة الإنسانيّة والتسامح والعيش المشترك... فما الذي قدّمته أغنية لطفي بوشناق إلى الأطفال أمل المستقبل؟
- الطفل في حياتي وفي مسيرتي الفنية لم يغب عني لحظة واحدة. وأخيرا وليس آخر، افتتحت مهرجان قرطاج بأوبرا بمشاركة 150 طفلا. لقد أنتجت أغنية بعنوان «سلاك الواحلين» قدمها طفل، كذلك أغنية «علمني يا سيدي» و»أنا ميّة أنا العصفورة المائية» تقدمها بنت صغيرة، وكذلك نشيد الجبار لأبي القاسم الشابي وقد أداها طفل صغير أيضا. كذلك أغنية قدمها مجموعة من الأطفال يقولون فيها: احنا لحدودك حرس، طول ما فينا نفس... وكذلك المجد للأقلام لا للبندقية، وأغنية أخرى لأطفال متلازمة داون، وفي رصيدي 5 جوائز عالمية عن أغنية الطفل. إنه تقصير كما قلت من الإعلام في عدم الترويج لأغنية الطفل، وإن شاء الله عندي برنامج هذه الصائفة أن يكون حفلا في قرطاج خاص بالأطفال منهم وإليهم؛ فهم من سيغنون للأطفال.
العدد 5161 - الأحد 23 أكتوبر 2016م الموافق 22 محرم 1438هـ
رائع كعادتك يا بوشناق
حوار جميل يعطيكم العافية يا وسط