العدد 5161 - الأحد 23 أكتوبر 2016م الموافق 22 محرم 1438هـ

شعرية السرْد في رواية «عابر سرير»

أحلام مستغانمي
أحلام مستغانمي

حينَ صدر المُنجز الروائيُّ الأوَّل «ذاكرة الجسد» للكاتبة الجزائريّةِ أحلام مستغانمي نقَش الشّاعر الكبير نزار قبّاني على غلاف الرّواية: «روايتها دوَّختني، وأنا نادرًا ما أدوخُ أمامَ روايةٍ من الرّوايات، وسببُ الدوخة أن النّصَّ الذي قرأتُهُ يشبهُني إلى درجة التطابق، فهو مجنونٌ، متوتّرٌ، اقتحاميٌّ، متوحّشٌ، شهوانيُّ وخارجٌ على القانون مثلي إلى أن يقولَ: الروايةُ قصيدةٌ مكتوبةٌ على كلّ البحور...» (لندن 20/8/ 1995م).

وما أزعمُهُ هنا أن الرّاحلَ الكبيرَ لو قُدّر لحياته أن تمتدَّ حتّى صدورِ رواية «عابر سرير» العام 2003م لما تردّدَ أن يكتبَ تعليقًا مشابهًا للتعليق آنفِ الذكر.

ذلك أنّك عندما تقرأُ مستغانمي تأسُرُك جماليّاتُ اللغة فتتماهى معَ عوالمَ من المجازاتِ الكفيلةِ بإخراج السّرد عن كلاسيكيّته المكرورة فيغدو متقاطعًا مع السجلاّت السّرديّة التي لا غايةَ لها إلا توثيقَ التاريخ.

إن «عابرَ سرير» روايةٌ تنهلُ من الحساسية المرهفة التي لا تكفّ عن التحديق والاختراق لأعماق الروح الإنسانيّة في أشد لحظات توترها بما يضفي على السيرورة الروائيّة إيقاعًا جماليًّا باهرًا لاتكائهِ على شعريّة اللغة التي تستكشفُ ما يتوارى في الذات جرّاء الأحاسيس الغائرة بالحرمان النفسي والجسدي وقمع السلطات المتعددة، والغربة وما تحفرُهُ في الذاكرة من متناقضاتٍ عصيّةٍ على النسيان فضلاً عن المحو والتجاوز.

والسردُ بهذه الكيفيّةِ يتجاوزُ كونه نصًّا، فهو يسمو ليصبح خطابًا روائيًا؛ إذ يتحول إلى شبكة معقّدةٍ من الاعتبارات القيمية والجمالية التي تتفاعل لتشكل عملية التخييل الروائي فتولّدُ اتجاهاتهِ الدلاليّةِ، وتوجّهُ إمكاناتِه التواصليّة.

والروايةُ التي نتحدّثُ عنها هي ثالثة الأثافي في مشروع مستغانمي السردي، ابتداءً بـ «ذاكرة الجسد» والتي صدرت في العام 1993م، مرورًا بـ «فوضى الحواس» والتي صدرت في العام 1998م، حيثُ تُوّجَت الكاتبةُ بجائزة نجيب محفوظ للرواية في العام 1998م، كما تُرجمت أعمالُها إلى عدّة لُغات عالميّة، وانتهاءً بهذه الرواية التي نحن بصدد تناولها.

في هذه الروايةِ نُصيخُ إلى صوتِ رجلٍ يخاطبُ امرأةً، وهو المؤلّفُ الضمنيُّ للرواية، فمستغانمي هي المؤلّفُ الحقيقيُّ، أما المخاطَبُ فهي امرأةٌ أنجزت روايةً من قبل بحسب منطوقِ الرواية /عابر سرير.

يزورُ الصحافيُّ «خالد بن طوبال» باريس ليتسلَّم جائزةً عن صورةٍ التقطَها لكلبٍ راحَ ضحيّةً للأعمال الإرهابيّة في الجزائر، وفي باريس يزورُ معرضًا لـ «زيّان» الذي كان طريحَ الفِراشِ لعديدِ الأمراضِ التي نهشت جسده، وفي المعرض يتعرّفُ إلى «فرانسواز» الفرنسيّة التي يقيمُ لديها زيّان الفنّانُ المريضُ، فيرغبُ خالدٌ المصورُ أن يتعرّفَ إليه بعدَ أن أعجبَ بلوحاتهِ فيستأجرُ غرفتهُ في منزل «فرانسواز» لينامَ على سرير زيّان، وعلى السّرير نفسه ينشئُ علاقةً حميميّةً مع «حياة» التي جاءت مع أمها إلى باريس للقاء أخيها «ناصر» الذي غادر الجزائر هربًا من السلطات الجزائريّة إلى ألمانيا بعد أن اتّهم بالإرهاب، وبعدها يموت «زيّان» ليعودَ إلى بلاده التي أتلفَ روحهُ في سبيلها.

إيحاءات العُنوان

يُحيلُ ظاهرُ عنوانِ الرواية ولوحة الغلاف إلى الجِنس، فيحسبُهُ القارئُ المتعجلُ موضوعًا مركزيًّا للرواية، بيد أن التعمُّقَ في قراءةِ المتنِ الروائيّ يأخذُ القارئَ إلى مدياتٍ أرحبَ بكثيرِ من هذا المدى، فهي تضجُّ بالجدل الوجوديِّ والمعرفيِّ الشاسع لمختلف موضوعات الحياة، فهناك الجزائر بتاريخها النضالي العريق، وهناك الرسمُ وما يحيطُ به من نقاشات وقضايا، كما أن هناك أسئلةً جديةً عن الهجرة والمنفى والنضال وباريس، وتتكرر عبارة «عابر سرير» في معظم فصولِ الرواية وتتكثّفُ في الجزء الثالث تكرارًا لافتًا وذا دلالة وهذه الصفحات هي: 223 /227 /231/243/248/249 يقول السارد /خالد بن طوبال: «سرير غير مرتّب لليلة حب لم تكن». (ص226)، «أنا هنا عابر سرير». (ص231).

الاقتباسُ النّصي

تحتشدُ في الرواية العديدُ من الاقتباساتِ النصية من الأدب العالمي حيثُ توظفُها مستغانمي في روايتها توظيفًا باهرًا، ومنذ البداية تصدّر الكاتبة روايتها بمقولة لـلاميل زولا: «عابرة سبيلٍ هي الحقيقة... ولاشيء يستطيعُ أن يعترضَ سبيلَها».

التناصُّ الروائيُّ

تتناصُّ روايات مستغانمي الثلاث تناصًّا داخليًا، فروايةُ «فوضى الحواس» تحيلُ بصورة متكررة إلى «ذاكرة الجسد»، وكذلك تصنعُ الكاتبةُ في هذه الرواية «عابر سرير» حيثُ الإحالات المباشرة وغير المباشرة إلى ذات الرواية الأولى.

إدهاشُ التقمّص

تدهشكَ مستغاتمي في التقمّص التام لشخوص روايتها، ويبلُغُ الإدهاشُ غايته حين تتقمّصُ الروائيّةُ العوالمَ الجوّانيّة للرجل/ الذّكر بصورة أكثرَ عمقًا من الرجل نفسِهِ، ولعلّ هذا ما حدا للبعض إلى التشكيك في هويّة كاتب الرواية، حسدًا، أو استجابةً لنسق الفحولة الذي مازالَ العربي يرفلُ في وثاقهِ!





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:50 م

      رائع منك أيها الاستاذ المتمكن ، هكذا عهدتك معلما و كاتبا مبدعا ولم يكن منصب معلما اولا إلا قليلا في حقك أيها المعلم و الاستاذ الفاضل ، موفق ان شاء .
      ننتظر منك المزيد لننهل من فاضل علمك و ثقافتك.
      من أحد معلمي مدرسة اسامة .

    • زائر 2 زائر 1 | 10:09 ص

      جميل منك أيها الأستاذ ، فلقد عهدتك رغم معرفتي القليلة بك انك معطاء
      بوركت جهودك وإلى إبداعات أخرى
      أحد معلمي مدرسة باربار

اقرأ ايضاً