انتهت أزمة الانتخابات الإيرانية ودُفِعَت الأكلاف. في الداخل الإيراني كان بعضها مجّانيا ومن دون حساب وبعضها الآخر كان ضرورة بغرض التزييت. لكن الأكيد أن أطرافا أخرى (في الداخل والخارج معا) لم تدفع أثمانها المُستحقّة بعد.
أكلاف الداخل
في موسم الجرد للداخل الإيراني ستكون الأثمان المدفوعة كالآتي: عملية «تسريح» واجبة لطبقة سياسية حَكَمَت إيران لثمانية أعوام، إلاّ أنها انبرت تهْجر في السياسة والأمن، إلى الحدّ الذي لم تعد الأهداف الوطنية بالنسبة إليها تتباين في أهمّيتها مع البرامج الخاصة.
وعملية ثانية تستهدف سلخ قنازِعَ من فِرَاء سياسية حان لها ذلك، بعد تورّطها في مناجزة حزبية وشخصية (مشروعة) مع أحمدي نجاد ما لبِثَت أن توسّعت فيما بعد لتصبح مناجزة سياسية (غير مشروعة) مع النظام برُمّته، فأفرزت خسائر في هيبته ورسوخه ومصالحه.
وعملية ثالثة تستهدف الإبطاء من مساعي مشاة سياسيين مُتحمّسين أكثر من اللازم داخل طبقة سياسية صاعدة لإذهاب ريح قطاعات مهمّة من شيوخ الثورة الأوائل. وترميم ما جرى بأسرع ما يُمكن درءا لحدوث اصطفاف سياسي (محافظ) لسماطين في خيمة الحُكم، أحدهما يُمسك بالكثرة السياسية، وآخر بعَصَب الحكم والإجراء.
في ضرورات «التسريح» الأولى ستنتقل الحالة من قانونية (عدم أهليّة المُرشّحين) إلى سياسية مسكوكة. وأبطالها سيكونون محسن آرمين، بهزاد نبوي، محمد رضا خاتمي، سعيد حجاريان، محمد علي أبطحي ومحمد سلامتي، وباقي الجوقة من جبهة المشاركة.
وللعلم فإن هؤلاء كانوا جزءا من الكتلة التي تورّطت في أزمة الأهليّة مع مجلس صيانة الدستور في العام 2004 قُبيل الانتخابات التشريعية السابعة، لكنهم تُرِكوا ضمن مناشط الحقل السياسي العام بعدها.
وفي عملية سلخ الفِراء الثانية، لن يُجَاز جزء من يمين اليسار الديني (أو الإصلاحيون المعتدلون) كما كان في السابق في أيّ انتخابات قادمة، وسيُرْكَنُوا على رفوف السياسة الإيرانية كأسماك الزّينة.
بمعنى أن مير حسين موسوي ومهدي كروبي لن يُنظر لهم باعتبارهم أطرافا معتدلة ضمن مسطرة الإصلاحيين (راجع تصريحات الشيخ يزدي عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام في ذلك). وقد يُستعاض عنهم بأطراف أخرى أكثر تعقّلا كنائب الرئيس الإيراني السابق محمد رضا عارف، أو السيد محمود دعائي أوّل سفير إيراني في العراق بعد انتصار الثورة.
وضمن العملية الثالثة فقد يُضغط (أو يُفرَض) على الرئيس محمود أحمدي نجاد لأن يقبل بتسوية سياسية تؤدي إلى عدم تقابل المحافظين التقليديين والتقدميين معه، وبالتالي تحييد قواعدهم الشعبية وأيضا قياداتهم التاريخية كالشيخ رفسنجاني وناطق نوري ومهدوي كني وإمامي كاشاني وعموم اليمين غير التعميري الذي ينتمي إليه نجاد.
فحصول مثل هذه التسوية ستضمن جرّ القواعد الشعبية المحافظة من المناطق الرمادية أو المتمايلة ما بين اليسار واليمين إلى زوايا أكثر رسوخا، ومن ثمّ العودة بالأمور إلى الكتلة الموحدة التي تمثّلت سابقا في مجلس تنسيق قوى الثورة.
ضمن هذا الإطار الثلاثي الأضلاع ستبدو صورة إيران من الداخل. فترتيب مسارات الحكم داخل النظام سيُساعد بلا شكّ في تقوية حضوره الخارجي الذي لن يكون قلقا من فساد أيّ إجماع على آلياته.
وما يُقال اليوم عن انكفاء إيران أو تشدّدها أكثر في تعاملها مع أزماتها وأزمات الخارج سابق لأوان الحكم. لأن ما يسبق ذلك هو ضرورة أشبه بالمقدمة للنتيجة. وهو ما رأيناه (من خلال الرصد) في أزمات إيران الأخرى.
في الخارج تسلّمت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا في بداية الأزمة مع طهران رسالتين مهمّتين. واشنطن أخذت علما بقصف عنيف لقاعدة باغرام الجوية الأميركية في أفغانستان، ولندن تبلّغت الرسالة عندما استلمت جثتين لرهينتين بريطانيتين كانا قد اختُطفا بمعية ثلاثة آخرين في العراق منذ مايو/ أيار من العام 2007.
وللعلم فإن هذين الحدثين جاءا بعد تصريحات رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني في العشرين من يونيو/ حزيران الماضي والتي أعلن فيها بأن إيران ستردّ على تدخلات الولايات المتحدة وبريطانيا في الانتخابات الإيرانية في أراضي الإقليم.
لاحقا فإن طهران علّقت مشاركتها في اجتماعات وزراء خارجية مجموعة الثماني في ترييستي بإيطاليا، وهذا يعني أن فضاءها في أفغانستان في حِلٍّ من أيّة ترتيبات أمنية، وبالتالي ضياع أحد أضلاع التسوية الأمنية هناك.
لاحظنا ذلك جليا بمقتل واحد من أصل ثلاثة هم أكبر ضباط الجيش البريطاني في أفغانستان وهو اللفتنانت كولونيل روبرت ثورنيلوي الذي قُتل في انفجار قنبلة زرعت أسفل مركبته المدرعة في إقليم هلمند الجنوبي مع جندي بريطاني آخر. ولاحظنا كذلك أسر الجندي الأميركي ومقتل أربعة آخرين في ولاية بكتيكا الواقعة شرقي أفغانستان.
السّاسة في طهران يعلمون حاجة نجاح التجربة الأفغانية للغرب بعد التركيز عليها عقب مجيء الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، وبعدما تأكّد فشلهم في العراق وما أنتجته من مأزق سياسي وأخلاقي غائر.
ولأن الحضور الغربي الواسع في هذا البلد (أفغانستان) يُبدّد نظرية «الأمكنة الفارغة» التي لا تُنتج صراعا، فإن وجود نهاية جغرافية قريبة من إيران على الحدود الشرقية الجنوبية يُصبح قوّة لعدم الاستقرار، والتي يمنح طهران بحكم الجغرافيا حقّ التحكّم في أجزاء واسعة بداخله.
الإيرانيون يدركون أن موقعهم في المنطقة وازن لأزماتها. به ومن خلاله يُمكن النظر إلى التاريخ وحضاراته المُؤسّسة لأحداث سياسية وثقافية لاحقة. فعُنُقها (أي إيران) يطلّ على الشمال الأوروآسيوي، وذيلها يلعب في جنوب القارة القديمة حيث المحيطات والبحار والخِلجان والأحزمة البشرية الملتهبة.
وضمن الوعاء الحضاري يُدرك العالم الغربي أيضا أن إيران تطالُ ثلاثة من أهم الديانات العالمية. في الشرق الأدنى نزولا على مياه المحيطين الهادئ والهندي تقبع الهندوسية في الهند والبوذية في الصين والتيبت وسريلانكا ومنغوليا وكوريا واليابان.
وفي الشرق الأوسط تطال الإسلام في منطقة الخليج وشمال القارة الإفريقية صعودا صوب القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان. ثم جزءا من مسيحية الشرق الراسخة في الهلال الخصيب والعراق وتركيا.
بهذا الموقع وامتيازاته نحن نتحدث عن تردّد صدى أي انفجار لقوى اجتماعية داخل هذا الموقع نحو «الجانب الأبعد للكرة الأرضية، وستتبدد نتيجة لذلك العناصر الأضعف في الجسم السياسي والاقتصادي للعالم» بحسب تعبير روبرت كابلان.
وإذا كان ماكيندر قد اعتبر أن الحضارة الأوروبية واتحاد الأقاليم الفرنكيّة والقوطية والرومانية هي حصيلة نضال ضد الغزو الآسيوي، فإن الغرب يُساهم في بناء حضارة إيرانية مُتّحدة الأنوية بِنِدِّيّته لها من دون أن يتعلّم من تاريخه. هذه حقيقة يجب أن يُلتَفَت إليها.
هنا لابدّ أن هذا التصور كان حاضرا لدى العارفين بخريطة المنطقة. وكان حريا بالغرب أن يفهم جيدا بأن الأزمة التي مرّت بها طهران والتي تورّط هو في أجزاء منها لم تكن تتيح له فرصة تغيير خاطفة كما كان يريد، وبالتالي فإن عدم نجاح التغيير مع إصرار غربي على تدخّل مفضوح يجعل منه طرفا في الأزمة لابدّ له أن يدفع جزءا من أثمانها.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2495 - الأحد 05 يوليو 2009م الموافق 12 رجب 1430هـ