ربما لم تكن المتسلقة النمساوية الشهيرة (جيرلينده كالتينبرونر) - التي تسلقت 12 جبلا من أعلى جبال العالم، والتي تتأمل أن تصبح أول امرأة تتسلق أعلى 14 قمة في العالم بعد أن تسلقت قمة لوتسي في نيبال - تتوقع أن تصبح هوايتها متدحرجة وسيّالة يتلقفها الصغير والكبير ليتسلق ويتسلق لعله يصل.
ربما لا يتسلق مقلدوها جبلا لكنهم يتسلقون أشياء أخرى، وبتسلقهم يصبحون أرقاماَ، قد يكون الواحد منهم رقما باهتا أو رقما وهميا أو رقما مؤقتا، أو حتى رقما خطأ، لكن الاعتراف بقدرته ومهارته فضيلة.
كنت قبل فترة أسأل عن رجل لا يتعدى دخله الشهري (7000) ريال، وكنت أراه عصاميا في جده واجتهاده وبناء ثروته، حتى علمت أنه من الذين تسلقوا حتى وصلوا إلى المليونين في فترة قياسية لم تتجاوز الثلاث سنوات، لقد دخل سوق الأسهم فترة طفرتها بمليون ريال، وهرب منها محافظا على رصيده بعد أن خسر مليونا آخر.
لم يجتهد صاحبنا في سوق الأسهم كما قد تظن، بل تسلق إرث طليقته ورواتبها، ثم فارقها بلا ثروة.
وشبيه بهذا النموذج ربما قرأتم عن آباء يتسلقون مستقبل بناتهم حين يرفضون زواجهن من الخطّاب المتقدمين لطلب الارتباط الشرعي، ليتسلقوا مستقبلهن بحثا عن الراتب والدخل الشهري الوفير.
تسلق الغباء (هو كذلك فن يجيده من لا ضمير له) فيستفيد من بساطة الناس وتصديقهم للدجل والكذب بسرعة، لتُبنى ثروات من اشتراك الكثير من الطيبين في شركات وهمية، تعمل بطريقة الحبل الذي يجر المزيد من المشتركين، مقابل مبالغ تلحق من أوصلهم إلى هذه الشركات، وقد قابلت الكثير من المسوقين المتفوهين، الذين يستميتون في إقناع الشخص بشراء سلعة رخيصة من شركة ما مقابل مبلغ باهظ، ليصبح المشتري عضوا مسوقا، يكسب زبائن جددا، يتسلق الربح بالضحك عليهم وإدخالهم في عضوية الشركة.
مهنيا يتسلق البعض من الموظفين مواقعهم للحصول على مآرب قد تكون مادية فتسير الأمور المرفوضة تحت الطاولة بسلاسة توحي بأن سير الحياة وتمشية القضايا لا طريق له إلا هذه الحيلة، وقد تكون مآرب أخرى ليس أقلها أن يستغل المطلعون على أوضاع المجتمع حاجة تلك المرأة أو تلك العائلة للمساعدة والمعونة فيتسلقون حاجتها لنيل بعض رغباتهم، وإن كانوا في مواقع وظيفية ورسمية.
حتى حالات الضعف والمرض والعوز الإنساني وجدت من يستغلها ويتسلقها وصولا للثروة والغنى، والإعلان عن الكثير من الأدوية المنشطة والمنحفة والمعالجة يكشف عن هذا التوجه الخطير.
أسوأ شيء هو أن يتسلق الإنسان الدين ويستغل تدين الناس وتسليمهم ليصل إلى مآربه، تماما كما فعل الشيطان حين أقسم بالله لأبينا آدم أنه له ناصح محب «وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ» والمقاسمة المبالغة في القسم أي حلف لهما وأغلظ في حلفه أنه لهما لمن الناصحين.
فيضرب بالدين ويحارب بالقرآن ويبارز بسنة الرسول (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم)، والحقيقة أن الموضوع تسلق واستغلال لأهم وأكبر مقدس في حياة الإنسان.
ويقاربه في السوء الذي يحاول التسلق اجتماعيا على أكتاف الآخرين وعلى تاريخهم، فيسلبهم محاسنهم ومساهماتهم ومبادراتهم، ليجعل نفسه الأفضل والأحسن والأعقل، مستفيدا من قواعد فرعون «فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى».
وسأعطي نفسي فرصة للتوسع لأقول: إن الكثير من النقاشات الاجتماعية هي تسلق بالشعارات والكلمات الرنانة لأنها بعيدة عن الفعل الميداني، وعن فهم الواقع، كما أن الكثير من المناظرات الرئاسية الانتخابية التي تنحو صوب الاستباحة الشخصانية لأسرار وحياة الآخرين الخاصة والتشكيك في تدينهم هي تسلق لا يولد إلا الدمار.
كيف نعرف أن هذا متسلق؟ كيف نمنع التسلق على حساب عواطفنا وديننا وحاجاتنا وضعفنا وقضايانا؟ كيف يمكن أن نكون مجتمعا يستعصي على التسلق؟ كيف نكتشف المتسلقين الحاليين؟
أعرف أن المهمة شاقة وصعبة، والفرز بين دقائق الأشياء وخصوصا إذا كانت تمس دواخل الآخرين ونياتهم خطر على الدين والدنيا، لكن ما أدعو له هو أن لا نؤخذ على حين غرة بالصراخ والعواطف والشعارات، بل نحكم العقل وأخلاقيات الدين وعيوننا مفتوحة على الواقع.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 2495 - الأحد 05 يوليو 2009م الموافق 12 رجب 1430هـ