كُتِبَ الكثير عن الديمقراطية العربية وفشلها في مختلف (أو معظم) الدول الممتدة من المحيط إلى الخليج. وكتب تحديدا عن «الدم الجزائري» وفشل التجربة في خوض هذا الحقل الشائك المسمى بـ «الديمقراطية».
بدأت الفكرة في رأس الدولة آنذاك الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد. حاول الرئيس استخلاص الدروس من فشل تجربة الاستبداد السياسي وحكم الحزب الواحد في الاتحاد السوفياتي مستفيدا من الفضاءات الدولية التي شجعت دول العالم الثالث الدخول في هذا المعترك، لعل «الديمقراطية» تساعد على طرح المشكلات (لا حلها) بعد ان زادت «الاشتراكية» من تعقيداتها.
لم يدرك الرئيس الجزائري أنه يدخل في مغامرة سياسية يقامر بالدولة كلها. وجاءت الاعتراضات أولا من النخبة الحاكمة التي رفضت الخطوة؛ لأنها قد تعني بداية المشاركة وهي مسألة لا ترضي حفنة من الجنرالات يحتكرون السلطة.
والاعتراض الثاني جاء من المجموعات السياسية المتطرفة التي ترى أن الديمقراطية وسيلة غربية للتعبير عن الرأي وأن الجموع لا يحق لها المشاركة في الرأي لأسباب كثيرة. فهي «أمية» أو «جاهلة بمصالحها».
وبدأ الانقسام. النخبة لا تريدها حتى لا تقع في دائرة المساءلة فتضطر إلى الخضوع للناس والقبول بما كانت ترفضه سابقا. والمجموعات المتطرفة لا تريدها؛ لأن الحقيقة برأيها لا تقررها الأكثرية أو الأقلية. فالحقيقة برأيها لا تحتاج للتأكيد أو النفي من طريق الاقتراع أو استفتاء «الجهلة».
وغامر الرئيس وتمسك بموقفه فمالت معه «النخبة» مكرهة تنتظر اللحظة للانقضاض على المشروع برمته. وبدأت المغامرة بالانتخابات البلدية واكتسحت «الجبهة الإسلامية للانقاذ» معظم المجالس. وبعدها جاءت الخطوة الثانية والأهم وهي: الانتخابات البرلمانية.
ودب السجال ثانية بين نخبة خائفة على مصالحها وامتيازاتها وأقلية معارضة متطرفة لا تريد الاحتكام إلى صناديق الاقتراع حتى لا تنكشف قوتها وهامشيتها السياسية.
وبين النخبتين (الدولة والمعارضة) برزت الأصوات العاقلة التي حاولت اقناع التيار الرئيسي في المعارضة (الجبهة الإسلامية للانقاذ) بعدم المقامرة بحظها ودفع خصومها إلى زاوية حادة. وجاءت النصائح من أكثر من جهة تتمنى على الجبهة الإسلامية الامتناع عن ترشيح انصارها على كل مقاعد البرلمان الجزائري والاكتفاء بنصف المقاعد وترك البقية للخصوم والهيئات السياسية المنافسة.
النصيحة كانت واضحة. لا تبالغوا في الرهان على التجربة فهي لاتزال في بداية الطريق وطرية العود وبحاجة إلى رعاية وعناية ومشاركة ومقاسمة. فاحتكار البرلمان يعني احتكار السلطة التشريعية ووضع السلطة التنفيذية (نخبة الجنرالات) في موقف حرج لا تستطيع أن تسايره أو تقبل به.
رفضت «الجبهة الإسلامية» النصيحة وربما لم تفهمها. فهي الأقوى وغالبية الشعب الجزائري معها وتستطيع أن تفوز بكل المقاعد، فلماذا تقبل بنصف المعروض مادامت قادرة على أخذ كل الموجود.
وأصرّت «الجبهة» على موقفها من موقف ذاتي وموقع القوة. وحين أشير إلى موضوع الوضع الإقليمي (دول الجوار) والمحيط الدولي (مخاوف الدول الأوروبية) وحساسية المسألة الداخلية (18 جنرالا يحكمون البلاد) كان الرد أن الجزائر حاربت فرنسا 130 سنة وتستطيع أن تحاربها مئة سنة أخرى، وأن شعب الجزائر يتمتع بخصوصية غير موجودة في بقية الشعوب فهو لن يقبل بالتساهل أو التراجع، وأن الجيش الجزائري (جيش المجاهدين وحارب الاستعمار) ولا يقبل بأن يطلق الرصاص على شعبه. كان رد «الجبهة» ان الجزائر تملك من «الخصوصيات» التي لا عدّ لها ولا حصر وهي غير موجودة في شعب من الشعوب. اتركونا نعالج شئوننا ولا تتدخلوا في خصوصيتنا.
وكانت الدورة الأولى من الانتخابات واكتسحت «الجبهة الإسلامية» نصف المقاعد وانتظر العالم الدورة الثانية لمعرفة مصير المقاعد المتبقية.
كل الاستطلاعات رجحت اكتساح «الجبهة» المقاعد الأخرى وبدأت المقالات تصدر في الصحف الأوروبية محذّرة من الدورة الثانية. وذهبت الهيئات الإعلامية في أوروبا إلى التحذير من خطر «الأصولية» الجزائرية ونشرت الدراسات والتحليلات عن امتلاك الجزائر للقنبلة النووية. وظهرت الرسوم التي تربط بين الأصولية الجزائرية والجاليات المغاربية في فرنسا والقنبلة النووية (المحمولة على صواريخ سكاد الروسية) التي ستضرب المدن الأوروبية.
وأقفلت الدائرة قبل الدورة الثانية. فالضغوط ومقالات التهويل ومخاوف النخبة العسكرية طوّقت الرئيس الجزائري ووضعته أمام خيار الاستقالة أو خيار إلغاء الدورة الثانية. فاختار الاستقالة وانقلبت النخبة على مشروع الرئيس وألغت نتائج الدورة الأولى وبدأ الاقتتال الأهلي.
ومنذ عشر سنوات لاتزال عقارب الساعة متوقفة. النخبة لا تريد التنازل والجبهة تنازلت... والدم الجزائري لايزال يجري في النهر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 15 - الجمعة 20 سبتمبر 2002م الموافق 13 رجب 1423هـ