كشفت الاستطلاعات التي أجريت في «إسرائيل» بمناسبة مرور مئة يوم على تولي حكومة أقصى التطرف المسئوليات السياسية في الدولة العبرية أن شعبية رئيس الحكومة الليكودي بنيامين نتنياهو ارتفعت قياسا على ما كانت عليه حين خاض معركة التنافس مع زعيمة حزب «كاديما» تسيبي ليفني. وكشفت الاستطلاعات أيضا أن شعبية وزير الخارجية افيغدور ليبرمان تفوقت على كل الوزراء على رغم خطابه العنصري الذي أثار غضب دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فزعيم حزب «إسرائيل بيتنا» القومي المتعصب حصد 18 نقطة إضافية بينما لم ترتفع شعبية وزير الدفاع ورئيس حزب العمل إيهود باراك سوى نقطة واحدة.
إلى ذلك سجلت دائرة الهجرة والتجنيس في «إسرائيل» أرقاما غير مسبوقة منذ العام 2000 حين أشارت المعلومات إلى نمو موجة الهجرة إلى فلسطين المحتلة بسبب الأزمة المالية العالمية. وذكرت الإحصاءات أن العام 2009 سجل 15 في المئة زيادة عن السنة الماضية في مجموعة المهاجرين التي جاءت من أوروبا وأميركا وإفريقيا استجابة للإغراءات المالية والتأمينات الصحية والاجتماعية والسكنية والتعويضات التي تحتاجها العائلات للاستقرار.
على ماذا تشير كل هذه الاستطلاعات والإحصاءات والمقارنات؟ سياسيا تؤكد على وجود عودة للثقة بقدرة الدولة على تأمين الحماية الأمنية وتسهيل متطلبات الحياة وتقديم ضمانات معيشية بإشراف وكالات ومؤسسات ترعى الهجرة وتشجع عليها. وأيديولوجيا توضح الأرقام أن خطاب أقصى التطرف يتمتع بشعبية داخلية حتى لو جلب للكيان الكثير من الخصوم وعزله عن محيطه والعالم.
خطاب نتيناهو المتطرف سياسيا وأيديولوجيا كان السبب الأول الذي ساهم في رفع منسوب شعبيته. فالرأي العام الإسرائيلي التف حول حكومة الائتلاف العنصري القومي والديني حين رفض الثنائي نتنياهو- ليبرمان تجميد الاستيطان بناء على رغبة إدارة باراك أوباما. والرأي العام تعاطف مع أقصى التطرف حين قررت حكومة نتنياهو التصدي للضغوط الأميركية- الأوروبية وردت سلبا على مبادرة السلام العربية وانتقدت بشدة خطاب المصالحة مع المسلمين الذي ألقاه الرئيس أوباما في جامعة القاهرة.
هذا النمو في شعبية حكومة أقصى التطرف الإسرائيلي تأسس على لاءات ترفض التجاوب مع الأمنيات والضغوط الأميركية- الأوروبية وتشترط في المقابل عدم استئناف التفاوض مع السلطة الفلسطينية إذا لم تعترف بهوية الدولة ويهودية «إسرائيل».
خطاب التطرف الإسرائيلي الذي انتعش جماهيريا في الشارع السياسي يرجح أن يستمر في نموه في حال فشلت الضغوط الأميركية- الإسرائيلية في التوصل إلى تسوية للملف الفلسطيني لأن المسألة ستظهر في العقول الضيقة وأصحاب «الرؤوس الحامية» وكأنها خطوة انتصارية سجلتها تل أبيب على العواصم الأوروبية والأميركية مجتمعة.
حكومة نتنياهو تراهن على انتصار وهمي يعطيها قوة معنوية ترفع من نسبة شعبيتها الداخلية في سياق التنافس الانتخابي مع الأحزاب الإسرائيلية. والتطرف دائما بحاجة نفسية- عضوية إلى انتصارات حتى لو كانت وهمية لتشريع وجوده السياسي في عالم يتجه نحو الانفتاح والتسوية والمصالحة. والعقول المتطرفة لا تستقيم ولا تعرف أن تعيش إلا وسط الخراب والفوضى والمزايدات اللفظية واختراع أزمات واختلاق بطولات كاذبة. وهذا النوع من الأجناس المتوترة والموتورة موجود في مختلف البلدان والشعوب وإن بنسب متفاوتة بين مناطق وأخرى.
من سمات التطرف أنه يعتمد دائما على الغريزة والمواد الأولية البدائية والتصريحات البخارية التي تتلاعب بالمشاعر وتدغدغ العواطف بقصد حشد الأصوات العالية بالصراخ لتأمين شعبية وهمية لا معنى لها سوى جرجرة الناس إلى مواقع انتحارية تقوض الاستقرار وتستدرج الدول إلى مواجهات عنيفة تنتهي بنتائج سياسية كارثية. وسمات حكومة نتنياهو تشكل مواصفات عامة للكثير من الحالات المشابهة التي مرت بها تجارب أيديولوجية تعرف عليها العالم في تاريخه القديم والمعاصر.
الحركة الصهيونية ليست استثناء عن قاعدة حركات التطرف والانغلاق في أوروبا وغيرها من قارات. فهذه الحركة منذ تأسيسها نجحت أيديولوجيا في المزاوجة بين الديني والدنيوي حين ربطت بين خرافات وهمية وأفكار معاصرة دمجت العلمانية بالروحانية والاشتراكية بالقومية والوعد الإلهي (أرض الميعاد وشعب الله المختار) بالوكالة اليهودية التي تجمع الأموال وتشجع الجاليات على الهجرة والتجمع في فلسطين لتأسيس «دولة» تمنع اليهود في الشتات من الاندماج أو التكيّف مع مجتمعاتهم.
هذه الحركة الصهيونية بدأت تكسب الأصدقاء والمناصرين واعتمدت على دعم أوروبا وأميركا حتى نجحت في تحقيق تلك الخرافات على أرض الواقع. ولولا ذاك الدعم المفتوح من أوروبا والولايات المتحدة لما نجحت «إسرائيل» في القيام والنهوض. فهذه الدولة التي تأسست بالقوة كانت نتاج تحالف أوروبا وأميركا ارتكز سياسيا على نمو أيديولوجية مسيحية متعاطفة مع أفكار الصهيونية التي تطالب بإعادة بناء الهيكل في القدس.
التعاطف المسيحي الأوروبي- الأميركي شكّل تقليديا تلك الرافعة السياسية للأيديولوجيا الصهيونية إذ تأسست على هامش الدول مجموعات كنسية متطرفة تتبنى مشروع عودة اليهود من الشتات وبناء الهيكل لكونه يعطي إشارات للقيامة ويسرع من احتمال ظهور «المسيح المنتظر».
ساهم هذا التعاطف المسيحي (الأيديولوجي الخرافي) تاريخيا في رفد الصهيونية بالأنصار والمريدين والمال والدعم والمعونات من كل الطوائف والمذاهب المسيحية الأميركية والأوروبية. فالتضامن الغربي أعطى تقليديا ذاك الغطاء السياسي والإعلامي والفكري والفلسفي للدولة العبرية حتى تعاند المحيط العربي وتواجه القرارات الدولية ومطالبات عودة الشعب الفلسطيني المطرود من أرضه إلى دياره.
«إسرائيل» الحالية كان من الصعب تصور وجودها على الخريطة السياسية في المشرق العربي لو لم تحصل كل هذا الدعم المعنوي وذاك الغطاء المادي بسبب انتشار الأيديولوجيا الصهيونية في أوساط النخب المسيحية الأوروبية- الأميركية التي وافقت على التضحية بسمعتها حتى خلال الاعتداءات العسكرية التي كانت تشنها «إسرائيل» على الشعب الفلسطيني والدول العربية المجاورة.
الآن وبعد مرور أكثر من مئة عام على الصهيونية وأكثر من 60 عاما على الدولة العبرية أخذ العقل المنغلق والمنعزل والحاقد والمغرور يتشاوف ويتباهى ويكابر ويزايد ويتحدى حتى تلك الدول والشعوب الأوروبية والأميركية التي ساهمت في حمايته والترويج لمشروعه والدفاع عنه في السراء والضراء. ومشكلة هذا العقل أنه لا يقرأ إلا ما يريده ويأبى التعامل بتواضع وموضوعية مع مطالب بسيطة تطرحها عليه واشنطن وعواصم أوروبية. فهذه العواصم المتحالفة مع تل أبيب في كل الحالات اقترحت على حكومة نتنياهو تجميد الاستيطان (لا تفكيك المستوطنات) والمحافظة على الأمر الواقع (لا توسيعه) حتى تستطيع أن تنشط حركتها الدبلوماسية وتبدأ بالتفاوض مع الأطراف العربية بهدف السلام (الانسحاب والتطبيع) على أساس مشروع إقامة الدولتين.
هذا كل ما طلبته إدارة أوباما بالتفاهم مع الاتحاد الأوروبي. وجاء الرد بالرفض والإصرار على توسيع المستوطنات عموديا وأفقيا متجاوزا الحد الأدنى من الاحترام والاعتبار للحليف الاستراتيجي والصديق الأيديولوجي والممول التقليدي والداعم الدائم لكل ما تريده حكومات تل أبيب منذ تأسيس الدولة.
رفض حكومة نتنياهو يشكل في مجموعه نصف مشكلة. النصف الآخر من المصيبة يتمثل في نمو شعبية الحكومة وصعود موجة الهجرة والاستيطان. وهذا عموما يعطي فكرة عن كارثة سياسية تنتظر المنطقة إما بفضل تماثل وتقاطع العقول المتطرفة والرؤوس الحامية أو بسبب احتمال تراجع الضغوط الأميركية- الأوروبية وعودتها إلى تقبل الشروط الإسرائيلية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2495 - الأحد 05 يوليو 2009م الموافق 12 رجب 1430هـ