ماذا لو كنت على موعد مع ذاكرتك التي تزخر بمدن ما من خلال نص روائي لكاتبة أجادت اللعب بالحدث والمشاعر؟
أن تمسك قلبك وأنت تقرأ التفاصيل التي مررتَ بها ذات سفر، وتحاول أن تعود مراراً من رحلةٍ أجبرتك حروفٌ على اللحاق بها، من غير تذاكر سفر أو تأشيرات دخول أو ساعات من «الحبس اللذيذ» في طائرة ما. لكنك تفشل، فما إن تخرج من مدينة حتى تدخل أخرى. ربما لم يسعفك الوقت ولا الظرف لأن تزور كل مدن تلك الرواية في الواقع، لكن ما كتبته الروائية الإماراتية نادية النجار في صفحات روايتها «مدائن اللهفة» يجعلك تدخلها وتتجول في أرجائها وتشم الروائح التي عُرِفَت بها أو تمتع ناظريك بالألوان التي طالما أشارت إليها الصور المنقولة عنها، وينصت سمعك إلى الأصوات التي تتعالى منها.
«مدائن اللهفة»، الرواية الثانية للنجار الصادرة عن دار مدارك للنشر، والفائزة بجائزة الإمارات للرواية فئة الرواية القصيرة، تدخلك في كل تلك المشاعر. حتى تحاول قراءتها دفعة واحدة كمن يتجرع ذاكرةً لا يريد لها أن تخبو قبل أن ينهي مسيرته.
الرواية بدأت بدبي، حيث تعيش البطلة، ومرّت بباريس ودمشق ومومبي وإسطنبول والكويت وبوسطن وبراتيسلافا وبيروت ولندن وجدة وأمستردام وبرايتون وريو دي جانيرو والغردقة وبانكوك وأبوظبي وانتهت برسالة لن تصل، وكانت هذه المدن هي أسماء فصول الرواية مذيلة بمقتطفات من الشعر والنثر وبعض الأمثال، اختيرت بعناية عن كل دولة تنتمي إليها تلك المدن وتتناسب مع جو الفصل الذي تعنونه.
تتمحور أحداث الرواية حول مريم، وخيباتها المتكررة، التي لم تبدأ بانفصالها عن حبيبها الشاعر والكاتب المثقف بعد زواجٍ قصيرٍ حُكِم عليه بالفشل، ولم تنتهِ بمعرفتها قصة والدها «العم حسن» الذي توفي قبل أن تبثه حاجتها إليه وشوقها لاحتضانه ولم تعرفه أباً إلا بعد فوات الأوان. حول أملها المتأخر المتقطع، وقلبها المنكسر، صوتها الذي بالكاد يحاول العودة بعد أن اعتادت الصمت. حول ريشتها ولوحاتها المركونة التي عادت إليها بصعوبة. وحول أختها (ريم) الطفلة المصابة بـ «متلازمة داون» والتي كانت تغبطها على طفولتها الدائمة. حول والدتها المنشغلة بتربية إخوتها السبعة الذكور «الذين أتوا تباعاً» وآخر العنقود ريم، وزوجة أبيها التي ربتها لأنها لم تنجب، إلى أن قررت التبني في خطوة جريئة بعد سنوات طوال.
الأحداث بسيطة جداً، هي رواية من النوع البسيط في أحداثها وشخوصها الذين بدا بعضهم مجرد زيادة عدد في الرواية، كما في الواقع الذي يزخر بشخوص لا تمثل فارقاً في حياتنا. وحبكة الرواية فيها جنوح نحو الخيال أحياناً، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بـ «ريم» وحديثها مع فرشاتها الذي بدا منزجَّاً في روايةٍ لم تكتب للأطفال، ولا تدخل تحت مظلة روايات الخيال العلمي، لولا أن عذر «إعاقة» ريم وطفولتها الدائمة منحها تقبلاً، فبدت متّسقة مع الحدث. وحكاية «العم حسن» الوالد الذي لم تعلم مريم بوجوده والذي جمعه القدر بها من غير أن يجمعهما أباً وابنة، لتعرف بهذه العلاقة في نهاية الرواية عن طريق الرسالة التي قرأتها متأخرة، وكأن القدر يأتي معانداً حتى في الروايات الأدبية.
لغة الرواية تشي بقدرة الكاتبة على اللعب باللغة، لولا بعض الأخطاء اللغوية والإملائية التي كان من الأجدر بالناشر الالتفات إليها قبل النشر حين مرّت على الكاتبة. لغة سلسة ومزخرفة في بعض المواضع التي كانت بحاجة لذلك. اعتمدت كثيراً على الرسائل كي توصلها إلى القارئ، حتى ولو جاءت متأخرة، كما يفعل القدر كثيراً.
فالرسائل كانت متن الرواية الأكبر وبها ختمت النجار روايتها أيضاً حين كتبت مريم رسالة لن تصل إلى والدها البيولوجي « العم حسن»؛ لتعتذر له عن تقصيرها ونسيانها وإهمالها لرسائله التي لو قرأتها حينها لربما أسعفها الوقت لتصليح شيء مما أهدره القدر. وعلى رغم ذلك قطعت على نفسها وعداً أن تستمر في الكتابة، فالحياة ما هي إلا مجموعة رسائل نكتبها ليصل بعضها ويبقى بعضها الآخر بعيداً عن النور.