لا يمكن للأفلام السينمائية، شأنها شأن أي منتج فني آخر، أن تدَّعي الحياد تجاه أي قضية تطرحها. وعموماً، فإن كل الأعمال الإبداعية، يجب أن تكون منحازة لأمر ما، قضية، رأي، شخص، قصة، ولهذا تُصنع، ونستمتع بمشاهدتها وننشدُّ لمعرفة ما تؤول أو ما تنتهي إليه. وفي الواقع، فإن ما يفعله صانع أي عمل فني، هو أنه يقدم وجهة نظره تجاه أمر ما لكن بشكل إبداعي، وبناء على ذلك، يصنع المتفرج أو المشاهد للعمل موقفه من الأمر موضع النقاش.
لذا فإن أي عمل إبداعي، بما في ذلك الأفلام، يزعم حياده تجاه القضية التي يطرحها أو يحاول الموازنة بشكل كامل بين وجهتي النظر المتضادَّتين حول القضية موضع النقاش، فإنه يحكم على نفسه بما يشبه الفشل.
هذا حقيقة ما حدث في آخر أفلام الفنانة الأميركية ميريل ستريب «فلورنس فوستر جنكينز» Florence Foster Jenkins الذي يروي قصة حقيقية بطلتها امرأة تجاوز طموحها حدود إمكاناتها بكثير.
الفيلم الذي أخرجه البريطاني ستيفن فريرز (وهو ذاته الذي قدم فيلم «الملكة» The Queen العام 2008) بني على نص سينمائي كتبه البريطاني نيكولاس مارتين في أول كتاباته للسينما، وبعد سنوات من الكتابة للتلفزيون (أشهر أعماله التلفزيونية Midsomer Murders ،2009-2011)، ومسلسل (The Bill 2007).
هذا الفيلم يروي قصة حقيقية تدور أحداثها في الأربعينات من القرن الماضي، بطلتها فلورنس فوستر جنكينز (تقوم بدورها ميريل ستريب) وهي التي يحمل الفيلم اسمها والتي عاشت في الفترة ما بين 1868 - 1944. يسرد الفيلم تفاصيل السنوات الأخيرة من حياة فلورنس، الثرية التي تنتمي إلى الطبقة المخميلة في نيويورك، والتي حلمت بأن تصبح مغنية أوبرا مشهورة. لكن فلورنس لم تكن تملك ما يجعلها قادرة على أن تصل لما تريد، طموحاتها في الواقع تجاوزت موهبتها كما إن امكاناتها وصوتها لم يكونا ليؤهلانها أبدا لأن تخوض عالم الغناء الأوبرالي.
على رغم ذلك، تعيش فلورنس وهم كونها مغنية سوبرانو متمكنة، وهو وهم يساهم المحيطون بها في صناعته وتعزيزه، ثم يبدو وكأن المجتمع النيويوركي حينها يتآمر لكي يقوي بنيان ذلك الوهم، بدءاً من زوجها سينت كلير (هيو جرانت)، وعازف البيانو كوزميه ماكمون (سيمون هيلبيرغ) الذي يصاحبها في جميع حفلاتها، وصولاً إلى الجمهور الذي بدا هو الآخر متآمراً ضدها أو معها. فلورنس التي تعيش حياة صاخبة مترفة، تستفيق أخيراً على حقيقة مرَّة، ربما تكون هي سبب نهاية حياتها، على الأقل كما جاء في الفيلم.
بدأت فلورنس عازفة بيانو بارعة، وامرأة تنتمي لأسرة ثرية حرمها والدها من ثروته خلال حياته بسبب رغبتها في دراسة الموسيقى، لكنها بعد وفاته أصبحت الوريثة الوحيدة والمالكة لثروة طائلة جمع جزءاً كبيراً منها فيما ورث الجزء الآخر عن والده.
تبدّد فلورنس تلك الثروة على حفلات صاخبة، ملابس غاية في الغرابة والترف، ونشاطات لا هدف لها سوء إرضاء وهم تعيشه هي لوحدها وتود أن تصدّقه، ويساعدها المحيطون بها على تصديقه، ربما لسخائها «المالي» الكبير معهم.
تنتهي حياتها بصدمة سببها اطلاعها على مقالات نقدية نشرتها صحيفتا «نيويورك بوست» و «نيويورك سن»، وذلك بعد حفلة أقامتها فلورنس في كارنجي هول، أرقى صالات العرض في نيويورك.
المقالاتان أشارتا إلى عدم قدرة فلورنس على الغناء الأوبرالي، بل وتمادت صحيفة «نيويورك بوست» حين أشارت إلى أن ليدي فلورنس (الاسم الذي تحب فلورنس أن تسمّى به) «قدمت مساء أمس أحد أغرب النكات الجماعية التي سمعتها نيويورك» وذلك في إشارة إلى غنائها الأوبرالي في حفلتها في كارنجي هول.
بحسب الفيلم، تطلع فلورنس على المقال النقدي في اليوم التالي، وتقع مغشياً عليها ثم تفارق الحياة بعد أيام، وبحسب القصة الحقيقية فإن فلورنس تقع يداها عن طريق المصادفة على نسخة من عدد «نيويورك بوست» الذي نشر فيه المقال، خلال تسوّقها في أحد الشوارع في نيويورك وذلك بعد أسبوع من إقامة الحفلة، لكنها تفارق الحياة بعد شهر كامل بسكتة قلبية.
لا يهم الآن توقيت وفاة فلورنس، ولا يهم فعلاً إن كان السبب هو المقالة النقدية اللاذعة، أم سكتة قلبية لا شأن لها بأي أمر آخر، المهم حقاً هو أن الفيلم لم يكن قادراً على جعل المشاهد يتعاطف مع فلورنس أو يقف ضدها، لأنه ببساطة لم يتخذ ذلك الموقف منها، وربما لم يعرف كاتبه ومخرجه وحتى منتجه لماذا جاءت هذه القصة في هذا الوقت بالذات.
بالطبع لا يمكن اعتبار ذلك نقطة إيجابية لصالح الفيلم، على العكس من ذلك، هذا إخفاق من قبل الكاتب وربما المخرج. فالإثنان لم يعرفا إن كانا يريدان أن يسخرا من فلورنس أم يتعاطفا معها، أن ينتقدانها أم يتفهمان أسلوب حياتها الغريب. بعض مشاهد الفيلم بدت ساخرة منها، وبعضها بدا متعاطفاً جداً معها. جانب مهم أغفلاه في حياتها ومرّا عليه مرور الكرام، وهو ذلك المتعلق بإصابتها بمرض جنسي نقله لها زوجها الأول فرانك ثورنتون جنكينز. لعل هذا المرض هو ما يفسر غرابة أطوار المرأة التي أصبحت موضع تندّر جميع معاصريها، وربما لمن عرفها وأطلع على سيرتها بعدها.
الجانب المهم في المرض الذي أصيبت به فلورنس وهو مرض السيفلس، هو أن الذين يصابون به لم تتوافر لهم علاجات جيدة في تلك الفترة، وكان الاعتماد حينها على أدوية تسبب نوعاً من التدهور في الجهاز العصبي.
ألا يعقل أن تكون تلك الأدوية هي ما صنعت هذه المرأة غريبة الأطوار. ألا يمكن أن تُعالج قصة حياتها وتُعرض على الشاشة بعد أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار؟ ألن يتمكن الكاتب حينها من اتخاذ موقف ما من بطلته؟ ألن يكون ذلك ذا فائدة لفيلمه بحيث يصبح أكثر إمتاعاً للمشاهدة؟
ليس هذا موقفاً متعاطفاً مع فلورنس، بل يمكن لقصتها أن تطرح من زاويتين. يمكن الحديث عن كيف يمكن للمال أن يصنع كل شيء حتى أن يجعل الوهم حقيقة. يمكن الوقوف على أمر تمكّن هذه المرأة التي لا تملك أي موهبة من الوصول إلى أرقى المسارح والصالات في تلك الفترة، بفضل ثرائها. يمكن إسقاط ذلك على عالم النجوم المزيفين اليوم. يمكن إسقاطه على عالم السياسة وكيف يمكن لرجل لا يملك الكثير من الفطنة السياسية أن يرشح نفسه لمنصب أقوى دولة في العالم فقط لأنه يملك المال.
من الجانب الآخر، يمكن للمتعاطفين مع فلورنس أن يطرحوا قصتها كقصة امرأة نبذتها أسرتها أولاً، ثم دمّرتها عاطفة غبية أوقعتها في حب رجل مريض، لتنتهي أخيراً وهي تحاول شراء الوهم من كل أحد ومن أي أحد. امرأة تبحث عن السعادة حتى لو جاء ذلك على حساب جعلها أضحوكة للجميع.
أخيراً، فإنه لولا ميريل ستريب وأداؤها الرائع وقدرتها على تقديم أي شخصية بأي تفاصيل، لم يستحق هذا الفيلم قضاء أي وقت لمشاهدته.
أتفق مع الكاتبة ، كلام منطقي..
أن يعيش أنسان في حالة من الوهم والإنكار الشديد،
وأن يتم خداعه وأستغلاله بحجة عدم جرح مشاعره..
فهذا مُحزن جداً..
في أعتقادي أن للقصة أبعاد أخرى كان من الممكن طرحها وأستغلالها في رسم بعض الأفكار لتستحث خيال المشاهد في تحليل حياة فلورنس..
على سبيل المثال:
مرض فلورنس، هل كان له دور في تصرفاتها؟
وزوجها كلير، ما سبب تشجيعه لزوجته على الغناء مع علمه بعدم قدرتها على الغناء؟
أم هي أمرأة لا تستسلم للواقع..
وأمور كثيرة..