العدد 5158 - الخميس 20 أكتوبر 2016م الموافق 19 محرم 1438هـ

العنف... المظاهر... الأسباب وكيفية معالجته

ورقة بحثية قدمتها الباحثة منى فضل

فضل أثناء تقديم الورقة البحثية
فضل أثناء تقديم الورقة البحثية

بتنظيم من مؤسسة كونراد أدينور والمركز الأردني للتربية المدنية عقد «ملتقى التربية المدنية والتربية الدينية» في العاصمة الأردنية عمان في الفترة من (27 إلى 28 سبتمبر/ أيلول 2016)، وقد قدمت الباحثة والكاتبة منى عباس فضل ورقة بعنوان «مقدمة عن العنف، المظاهر، الأسباب وكيفية معالجته»، والتالي جزء ملخص لما تناولته الورقة في الملتقى.

تنامى العنف في المجتمعات الإنسانية وفي كل الاتجاهات خلال السنوات الأخيرة، ما حتم على المهتمين والباحثين من المفكرين التركيز على مقاربته من خلال الدراسات والأبحاث والمناقشات في الندوات والمؤتمرات، حيث حدث الخلط بينه كعنف مجتمعي وبين العنف الفردي، مما أضاف التباساً في مفهوم العنف وخصوصاً عند مقاربته تبعاً للنظريات التقليدية التي وجدها بعض الباحثين عقيمة في فهمها واستيعابها لما يجرى في حقيقة العنف.

إن هذه الإشكالية استدعت إعادة النظر والتأمل في ظاهرة العنف المجتمعية؛ وذلك بالتركيز على ما يفكك وقائعها ويفسرها عبر فرضيات لها علاقة بالمتغيرات والتفاعلات الجديدة التي حدثت في العالم، وبما فرضته من عنف بهذا المستوى أو ذاك، بل إن الكثير من الباحثين أصبحوا ينادون بضرروة تقديم رؤية جديدة تفسر العنف ويمكن الوصول من خلالها إلى طرح التعميمات التي تقارب الواقع والحقائق وتجد الحلول للعنف الذي تعيشه مجتمعاتنا المحلية وتعاني منه على أسس علمية وموضوعية، لاسيما مع ارتفاع معدلاته التي تخطت المجالات المحلية والعالمية.

مفهوم العنف

يرى علي ليلة في بحث له عن العنف، انه ولفترة طويلة انشغل التنظير لظاهرة العنف المجتمعي باستخدام أدوات تحليل سوسيولوجية تأثر بعضها ببدايات التنظير للعقد الاجتماعي من خلال محاولات توماس هوبرز الذي أرجع أسباب العنف إلى «أنانية البشر وميلهم إلى الشر وإلى الغدر»، فيما أسنده جان جاك روسو «إلى حالة المجتمع الشرير، الذي يعيش في إنكاره البشر الخيرين بطبعهم، والذين تعلموا الشر من المجتمع»، ومن منطلق هذا الاتجاه الإطلاقي في التنظير عرَفوا العنف «باعتباره فعلا يأتيه فاعل، فرد أو جماعة أو حتى أمة، مستنداً إلى ضغط دوافع تدفع الفاعل لتحقيق أهداف محددة باستخدام القوة المادية أو المعنوية؛ متجاوزاً القواعد القانونية القائمة، إما لأنها غير عادلة أو لأنها رخوة ضعيفة غير ملائمة لتحقيق مصالحه».

في التعريف الاصطلاحي عرفه تشارلز ريفيرا وكينيث سويتزر بأنه «الاستخدام غير العادل للقوة من قبل مجموعة من الأفراد لإلحاق الأذى بالآخرين والضرر بممتلكاتهم»، أما أرنست فان دين هاغ فذكر انه «استخدام القوة المادية لإلحاق الأذى والضرر والتخريب بالأشخاص والممتلكات، وقد يكون الهدف منه تحدي السلطة»، كما عرف بكر القباني العنف بأنه «نقيض الهدوء وهو كافة الأعمال التي تتمثل في استعمال القوة أو القهر أو القسر أو الإكراه بوجه عام، ومثالها أعمال الهدم والإتلاف والتدمير والتخريب، وكذلك أعمال الفتك والتقتيل والتعذيب وما أشبه»، ويندرج في الاتجاه نفسه تعريف رشيد الدين خان «بأنه استخدام القوة المادية لإنزال الأذى بالأشخاص والممتلكات، وأنه الفعل أو السلوك الذي يتميز بهذا، وأنه التقاليد التي تميل إلى إحداث الضرر الجسماني أو التدخل في الحرية الشخصية». فيما عُرف العنف في السياق ذاته من آخرين بأنه «سلوك إيذائي يقوم على إنكار الآخر، ويتم من خلال استعمال العنف اللفظي أو الجسدي والاعتداء على الآخرين والتطاول على القانون؛ من أجل تحقيق مصالح شخصية غير مشروعة».

لقد تعددت اتجاهات التنظير، وهناك من وسع المفهوم بما يشتمل عليه من تهديد باستعمال القوة إلى جانب الاستخدام الفعلي لها، أي أنه يشمل السلوك القولي إلى جانب السلوك الفعلي، كما فعل بيير فيو الذي نظر إلى العنف بأنه «ضغط جسدي أو معنوي، ذو طابع فردي أو جماعي، يُنزله الإنسان بالإنسان»، ونظر باتجاه آخر إلى العنف «باعتباره مجموعة من الاختلالات والتناقضات الكامنة في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع، ولذلك أطلق عليه اسم «العنف الكلي» أو «البنائي»، الذي يتخذ أشكالاً متعددة كغياب التكامل الوطني داخل المجتمع، وسعي بعض الجماعات للانفصال عن الدولة؛ وغياب العدالة الاجتماعية، وحرمان قوى معيّنة داخل المجتمع من بعض الحقوق السياسية؛ وعدم إشباع الحاجات الأساسية كالتعليم والصحة والمأكل... الخ، لقطاعات عريضة من المواطنين؛ والتبعية على المستوى الخارجي».

وعليه، يجمع الباحثون ومنهم ليلة في هذا المجال، بأنه ولكي يتم الكشف عن أبعاد ظاهرة العنف، يجب تحليلها في سياقها الاجتماعي ودراستها، لاسيما أن إدوارد عازار يرى «أن وضعية العنف الهيكلي هي التي تؤدي إلى وجود الصراعات الاجتماعية الممتدة»، وهي صراعات تضرب بجذورها في البناء الاجتماعي والتكوين الثقافي للمجتمعات... انظر كتاب حسنين ابراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية»، حيث تتسم بتعدد المشاركين في الظاهرة، وتشعب القضايا الفرعية المرتبطة بها، وتداخل أبعادها الداخلية والخارجية، كما تتميز باستمرارية حالة من العداء والتوتر الذي قد ينفجر في شكل أزمات حادة وأعمال عنف مسلحة، وفي حالة الصراع الاجتماعي الممتد، لا يبدو أن هناك نقطة أو نقاطاً محددة لانتهاء الصراع.

هنا لا تقتصر حالة العنف الهيكلي بحسب دراسة ليلة على الاختلالات الكامنة في البناء الاجتماعي داخل الدولة والمجتمع فحسب، بل تشمل كذلك اختلال العلاقات بين الدول، فالاستغلال الذي تمارسه الدول الغنية المتقدمة على الدول الفقيرة المتخلفة بصور وأشكال متعددة يمثل شكلاً من أشكال العنف الذي تعاني منه شعوب العالم الثالث، ويطلق على العنف الهيكلي في هذه الحالة اسم «العنف الخفي»؛ كونه عنفا كامنا في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمجتمعات، وفي ذلك تمييز له عن العنف الظاهر الذي يتم التعبير عنه بسلوكيات وممارسات ظاهرة ومملوسة. وثمة علاقة وثيقة بين العنف الهيكلي والعنف السلوكي، فوجود العنف الهيكلي -أي وجود مجموعة من الاختلالات والتناقضات في البنية الاجتماعية- يزيد من احتمالات العنف السلوكي، ولأن السعي إلى تغيير البنيان الاجتماعي أو الإعلان عن حتمية تغييره يرتبط بمجموعة من التوترات والاضطرابات التي تتضمن قدراً من العنف.

يتبين من التعريفات السابقة وتلك التي تناولتها الدراسات، أن مفهوم العنف يشمل السلوك الذي يتضمن معنى استخدام القوة المادية فعلياً لإلحاق الأذى والضرر بالذات أو بالآخرين، وتخريب الممتلكات بهدف التأثير على إرادة المستهدف، ما يعني أن السلوك العنيف يتضمن معنى الإرغام والقهر من جانب الفاعل، والخضوع أو المقاومة المضادة من جانب المفعول به أو المستهدف، كما أن السلوك العنيف قد يكون فردياً أو جماعياً، منظماً أو غير منظم، علنياً أو سرياً، صريحاً أو كامناً، ومنه تتعدد صور العنف وأدواته وتتداخل.

مظاهر العنف الاجتماعي

أما في مظاهر العنف الاجتماعي فيركز ليلة في دراسته عن «تقاطعات العنف والإرهاب في زمن العولمة»، على أهمية الأخذ بالحسبان 3 اعتبارات أساسية لإدراك وقائع العنف كمدخل لتفكيكها وتفسيرها، الأول منها؛ ضرورة تجنب النظرة الأحادية في تفسير العنف، بمعنى تجنب الاتجاه الذي يفسر العنف انطلاقاً من المتغيرات التي تحدث لأي علم من العلوم فقط، مثل محاولة تفسير العنف باعتباره تعبيراً عن بناء شخصية الأفراد القائمين به، مقابل محاولة تفسيره بمتغيرات من داخل علم الاجتماع أو علم السياسة فقط. وهنا يطرح علينا بديل مرن في تفسير وقائع العنف بإرجاعه إلى جملة متغيرات، حيث تؤكد بعض الدراسات إلى أن المتغيرات المسببة للعنف عادة ما تكون ذات طبيعة فردية في فترات الاستقرار الاجتماعي، بينما تكون المتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية المرتبطة بالسياق الاجتماعي؛ وهي التي تغلب في فترات التحول الاجتماعي وإعادة تشكل المجتمع سواء أكان التحول باتجاه الانهيار بسبب العجز عن تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين، أو بسبب ارتفاع مستويات قلقهم وثقل همومهم الاجتماعية التي أثقلت كواهلهم فيجدون في العنف مدخلا للتخفف من ثقل هذا القلق والهموم، أو بسبب اهتزاز بناء النظام السياسي، أو قد يكون نتيجة للفاعلية وباتجاه مزيد من الانجاز والتطور.

أما الاعتبار الثاني فيتمثل «بأن للعنف مستوياته ودوائره، أحياناً يكون عنفاً فردياً، قد يرجع إلى طبيعة بناء الشخصية لعدم سوائها، أو بسبب القهر المفروض على المواطنين في المجتمع أو يكون قهراً عالي الوطأة على بعض أفراده، ويحدث عنف الجماعة أو «العنف الاجتماعي»، حين تمارس إحدى الجماعات العنف حفاظاً على مصالحها في مواجهة الدولة أو المجتمع، أو حين تتفجر أسباب ومواقف طارئة في سياقات اجتماعية يتراكم فيها التوتر والاضطراب، وعند تكرر هذا النمط من العنف واتساع ساحته يصبح مستمرا وملازماً؛ ويتخذ طابع الثورة وغالباً ما يؤدي إلى إحداث تغييرات أساسية حتى تنتهي المتغيرات المفجرة له.

وبالنسبة للاعتبار الثالث، فيتركز حول النظر لمفهوم العنف من بعده الواسع حيث تضيع الحدود والمعالم، وخصوصاً إذا كانت المتغيرات على صلة بالنظام السياسي أو ببناء المجتمع ذاته، هنا يعتبر العنف السياسي والاجتماعي والبنائي هو المعبر عن الطبيعة الجوهرية للعنف بامتياز. في هذا الإطار يُشخص فعل أو واقعة العنف بالنظر إلى مرجعيته، التي تشير إليها الدراسة، بمرجعيتين؛ الأولى مرجعية تشرع العنف وتضفي عليه المشروعية، مقابل مرجعية أخرى ترفض العنف وتجرمه، ما يعني انه ومع تعدد المرجعيات سترتفع احتمالات الصدام وتفجر العنف، أن تناقض المرجعيات وحتى مع النظام السياسي، قد يقود المجتمع إلى الانهيار أو قد يدفع باتجاه تولد مجتمع جديد فاعل.

لقد استجد على أحداث العنف في عالمنا المعاصر تبعاً للدراسات والوقائع قضية جديدة يستوجب إدراكها والتركيز عليها من عدة جوانب، يتعلق الأول منها بالتمييز في العنف بين واقع قديم للعنف وأسبابه الكامنة أساساً في إطار واقع وبنية المجتمع المحلي، وعنف آخر جديد تكمن أسبابه في بنية النظام العالمي المعاصر أو ما يطلق عليه «العولمة»، حيث يتداخل العنف الجديد ويتقاطع مع مستويات العنف المحلي في تفاعلاته، ما يعني أن وجود البعد العالمي أصبح بارزاً وحاضراً فيما يحدث من عنف مجتمعي محلي، هذا أمر.

أما الأمر الثاني كما يشير حسنين إبراهيم في دراسته، فله علاقة ببروز عناصر جديدة غيرت من طبيعة العنف المجتمعي وأكسبته طبيعة جديدة، وخصوصاً مع سعى النظام العالمي لفرض تعريف لمفهوم العنف يتداخل فيه مع الإرهاب وليس مع المقاومة أو الثورة. إن شيوع استخدام مفهوم الإرهاب بما يكتنفه من غموض سياسي وفكري ارتبط بانحيازات قيمية وايديولوجية وسياسية، بحيث أصبح إطلاق صفة الإرهاب على دولة أو جماعة أو منظمة معينة أو شخص معين سلاحاً دعائياً لتشويه صورة المستهدف، ولتبرير بعض الاجراءات الانتقامية ضده، كذلك لابد من ملاحظة بروز «العنف المعنوي» من خلال التلويح باستخدام القوة القهرية عبر التهديد والوعيد، ويكفي الإشارة إلى استخدام رجال السياسة وأجهزة الاعلام في الولايات المتحدة الأميركية مفهوم الإرهاب وإلصاقه بأطراف من المقاومة الفلسطينية، أو موقف «القوة الأميركية» بالنسبة لعدد من شعوب العالم، فهذا برأي الباحثين يعد عنفاً معنوياً يحقق نتائجه دون اللجوء للقوة، كما ان ارتفاع معدلات العنف المحلي والعالمي ما هو إلا مؤشر على حالة عدم الاستقرار العالمي الذي نعيش فيه، ويخضع لحالة من التشكل التي تفرض تأسيس تفاعلات صراعية متعددة تؤدي إلى تفجر حوادث العنف على ساحته.

في هذا السياق، يقترب سالم ساري في بحثه عن «ثقافة العنف المجتعي» في تفسيره للعنف المجمتعي من الاتجاهات السابقة، فالنسبة له العنف المجتمعي «يتمظهر كنمط ثقافي واجتماعي من كونه حالة مكتسبة تُصنع وتتراكم في المجتمعات وبتفاعل مع عناصر كثيرة كالشخصية الفردية والهوية الاجتماعية والأمراض النفسية والمشكلات الاجتماعية التي تلعب فيها الأنماط الاجتماعية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والتدريب والتأهيل عبر المؤسسات المجتمعية ومنظومة الثقافة السائدة دوراً كبيراً في علاقة مستمرة ومتشابكة ومتداخلة يعاد إنتاجها من خلال المؤسسات النظامية واللانظامية كالأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية والتعليمية ووسائل التواصل والإعلام، ما يعني أن العنف يرتبط بثقافة فرعية وثانوية تتداخل فيها اتجاهات الجماعات الدينية والعرقية والإثنية والمهنية، وبما يرتبط بالثقافة الجمعية للمجتمع، كما إنه يمارس على مستوى الأفراد والجماعات والشرائح الاجتماعية الشعبية حيث يجد له ملاذا ومنفذا من خلال الثقافة الشعبية السائدة التي تمر عبر التشكل والتكون والتأثير.

تنطلق بعض الأبحاث في دراستها وتشخيصها ظاهرة العنف المجتمعي في مجتمعاتنا من منظور الثقافة السائدة ومنظومة الأعراف والتقاليد، إضافة إلى أشكال الصراع والنزاعات والصدامات الأخرى التي تعد مرتكزات يستند عليها العنف ويتمثلها من خلال الثقافة التاريخية بما يرى فيها ساري منبعاً يتغذى منه العنف الذي يتميز بتاريخ طويل وممتد في تاريخنا العربي، ومنذ نشأة القبيلة وما رافقها من حروب ونهب وغزوات وغارات (غنائم وسبايا)، فما يحدث في عصرنا العربي الآن ما هو إلا إضافة لهذا التاريخ بكل ما تميز به من ثقافة انتقامية ثأرية يحركها الانتقام الذي يستند إلى مفهوم شرف القبيلة وإظهار الصرامة والقسوة والخشونة كأولوية للذكورة والرجولة، وهو ما يعاد إنتاجه عبر جرائم الشرف التي تشرعن العنف كفعل مشروع.

فهذه الثقافة بحسب اعتقاده منقلبة على ذاتها تعلى من وصف فضائل الذات وتغالي في رذائل الآخرين من الأعداء، كما لا تثق إلا بذاتها، وترفض الشراكة والتفاعل والاندماج حيث تتعاطى مع التعصب وتضخيم الذات وتبخيس الآخر، وفي هذا مؤشر على عجز وقصور واحباط، وعلاقة عدائية وغير سوية مع الآخر المختلف، ويضيف بأن هذه الثقافة لا تشجع على الاستقلالية ولا تتسامح مع المتمردين عن العائلة والقبيلة أو الطائفة والحزب، وهي تنشئ أفرادها على التبعية والخضوع والولاء والانتماء، إن هذه الثقافة تشكل تربة خصبة ومهئية للعنف المجتمعي عنوانها الطاعة والمعارضة والتعصب، وقد تتمدد هذه الثقافة الشعبية للعنف وتتنامى مع التعصب والفقر والقهر، فتتراكم ممارساتها ويتبلور خطابها، وتستقر في رموزها مكونة ثقافة مجتمع للعنف، التي تستقر في أنماط سلوكية يشوبها التهديد العنفي اليومي بأشكال متعددة عبر العلاقات والتفاعلات في الفضاء العام في المجتمع وفي مؤسساته، ولا تستثنى شرائح في المجتمع عن غيرها بهذه الممارسة من العنف الصارخ والمعلن، حيث يسود النفاق الاجتماعي والتطهير الجمعي على أساس الهوية أو المذهب، حتى وإن تم التستر على بعضها، إلا أن الانفجار يحدث يومياً من خلال المواقف التفاعلية الضاغطة لأفراد المجتمع وسلوكياتهم.

إن ما يحدث من عنف مجتمعي محلي يستدعى التأمل والتعمق أكثر في تفسيره من خلال أبعاد أكثر اتساعاً كما تقودنا إليها دراسة علي ليلة، حول بروز أشكال جديدة من العنف تمارسها القوى العالمية الكبرى لم تكن معروفة، وهي تعمل على اخضاع الشعوب وملاحقة الجماعات، فيأخذ بعضها شكل عنف مادي أو معنوي كـ»العنف الحضاري» بتشويه الحضارة الأخرى المستهدفة أو الضغط على شعوبها للتخلى عن ثوابتها، كما فعلت كتابات «فرنسيس فوكاياما وصمويل هنتجتون» والرسوم الدنماركية المسيئة للرسول وتصريحات جورج بوش والمحافظون الجدد في محاولتهم ربط الإسلام بالإرهاب. مقابل ذلك العنف المضاد الذي تقوده جماعات استفزها الاعتداء على حضارتها، وسعت عبر العنف الحفاظ على هويتها، وهناك العنف الإعلامي والعنف البيئي الذي يتمظهر في اعتداء الإنسان على الطبيعة بقطع الأشجار وتقليص المساحات الخضراء واستخدام المواد السامة المضرة بالكائنات وتجريف الأرض واستنزاف ثرواتها الباطنية بما يهز توازن البيئة الطبيعية لإشباع رغبات الإنسان واحتياجاته الأنانية الشرهة، فمقابل ذلك الطبيعة ترد عنف الاعتداء بالعنف، فتتزايد معدلات الزلازل والبراكين والأعاصير التي تقضي على الآلاف البشر، وترفع من معدلات فقراء العالم.

إضافة إلى ذلك يتمثل العنف الجديد في الفئات الاجتماعية التي تشارك بكثافة في أحداث العنف معتدين أو معتدى عليهم، وأبرز هذه الفئات المهمشين الذين تكاثرات أعدادهم، فهم فاقدو القوة والقدرات للالتزام بقيم الثقافة وأخلاقها، ربما لأنهم نشأوا في أسر مفككة ويميلون لممارسة سلوكيات خشنة ومنحرفة تجاه الآخرين، ويدخل في نطاقهم المهمشون ممن انخفض نصيبهم من رأس المال الاقتصادي والثقافي والتعليمي، حيث تشير البيانات على سبيل المثال إلى ارتفاع نسبة من هم تحت خط الفقر في بعض الدول إلى «50 في المئة» ومنهم 25 في المئة فقر مدقع وأكثر من 50 في المئة أميين ولا تشبع حاجاتهم الأساسية، ناهيك عن أطفال الشوارع الذين يتعرضون للانحراف والاغتصاب والمتاجرة بأجسادهم حيث يتراكم عندهم الحقد والانتقام فيردون صاع العنف بصاعين للمجتمع حين يكبرون، ففي أوساطهم تتشكل عصابات الجريمة والمتاجرة بالمخدرات والبلطجة التي تعد سلوكاً عنيفاً يلعب دوره في تفريغ التوترات المختزنة والمتراكمة لديهم، وهناك المهمشون المحرومون من المشاركة السياسية لأسباب تتعلق بجوانب تعليمية وثقافية أو إلى قصور النظام السياسي وعدم جديته واهتمامه بمشاركتهم السياسية، يضاف إليها الفساد ونهب المال العام والتمييز واللاعدالة... الخ، مما يؤدى إلى ضعف انتماء الحاكم والمحكوم على السواء، فجزء من المهمشين مطرودون وقابعون في أطراف المدينة «في العشوائيات» التي ينتظرون فيها فرصة الانقضاض على المدينة كي ينشروا فيها الفوضى والعنف والانحراف.

إن ضعف الانتماء يعني ضعف أو انهيار الروابط التي كانت تضم الجماعات ضمن مشروع اجتماعي واحد، وبسبب فشل النظام السياسي العربي ضبط حركة المجتمع وإدراة مشاريع التنمية وإشباع الحاجات الأساسية للمواطنين فقد أدى ذلك إلى اليأس والإحباط الذي ساهم في إذكاء جذوة العنف، وخصوصاً حين اعتمد على عصا الأجهزة الأمنية والبوليسية في مواجهة التعبير عن مواقف المعارضة الرافضة لهذ الفشل الذي يشكل مصدراً للقهر والحرمان والفاعل المسبب له، وخصوصاً مع انتشار ثقافة التهميش والاستبعاد من المشاركة الحقيقة في شئون المجتمع، حيث اتسعت مساحة العنف التي دفعت بالبعض إلى المشاركة بآلية العنف رغم أنف المستبعدين أو المهمشين لهم، وقد لعبت رخاوة تطبيق القانون أو تغيبه كما يضيف ليلة بإشاعة الفوضى التي تؤدي إلى العنف، إضافة إلى تفاعلات مع الضغوط الدولية والأزمات المالية والسياسية العالمية وانعكاستها على الوضع المحلي.

من هذا المنطلق يمكن تصنيف مظاهر السلوكيات العنيفة استناداً إلى معايير متعددة؛ أولها، معيار شكل السلوك العنيف وطبيعته، والتي يمكن تصنيفها وبحسب التعريفات الاصطلاحية السابقة، إلى شكل إضرابات وتظاهرات وأحداث شغب وتمردات عامة وعمليات إعدام... الخ، والثاني، معيار أهداف الفعل العنيف أو دوافعه، إذ يمكن أن يكون للعنف هدف سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو ديني أو إجرامي، وثالثها، معيار طبيعة القوى التي تمارس العنف، وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن العنف الطلابي والعنف العمالي، والعنف المؤسسي الذي تمارسه أجهزة منظمة كالجيش والبوليس... الخ، وغالباً ما تتجه بعض الفئات والقوى الاجتماعية إلى ممارسة أشكال معينة من العنف أكثر من غيرها؛ نظراً إلى طبيعة هذه القوى من جانب، وخصوصية تلك الأشكال من جانب آخر. فالطلبة عادة ما يتظاهرون والعمال يضربون، وأحياناً تنخرط وحدات القوات المسلحة في التمردات والأعمال الانقلابية، كما انها تُستخدم في بعض الأحيان للقضاء على أعمال العنف المضاد للنظام.

أما المعيار الرابع فيتمثل في حجم المشاركين في أعمال العنف، وهنا يمكن التمييز بين العنف الفردي أو المحدود الذي ينخرط فيه فرد أو عدد قليل من الأفراد، والعنف الجماعي وهو الذي تمارسه فئات اجتماعية أكثر عدداً، ويرتبط بعمليات واسعة من الحشد والتعبئة، وخامسها، معيار درجة التنظيم، وهنا يمكن التمييز بين العنف المخطط، وهو غالباً ما يتم بصورة منظمة كالانقلابات العسكرية، وعمليات الاغتيال، والأعمال الإرهابية، والعنف غير المنظم أوالعضوي، وهو الذي يندلع بصورة تلقائية فجائية، ويأتي في الغالب كرود أفعال موقفية، ومن أمثلته المظاهرات والإضرابات وأحداث الشغب.

خلاصة الأمر، وبسبب تعقد ظاهرة العنف المجتمعي، وتعدد صورها وأشكالها، لا يمكن اعتماد معيار أو تصنيف واحد لها، ولابد من الأخذ في الاعتبار التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعاصرة التي تلعب دوراً محورياً في واقع أحداث العنف بكثافة عالية غير منظورة في التاريخ السابق للعالم أو المجتمعات، مما زاد من معدلات العنف في السنوات الأخيرة بكثافة عالية عالمياً وإقليمياً ومحلياً، ولهذا أسباب كثيرة ومتشعبة تتناولها هذه الدراسة سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، وقد خلصت دراستنا هذه إلى أن ظاهرة العنف المجتمعي هي مركبة ذات صلة بعوامل ذاتية وموضوعية، وقد لمسنا ملامحها من خلال الفشل في تحقيق المشروع التنموي المستدام وتعثر إنجاز برامج الإصلاح والتحديث وتحقيق أهدافها في عملية التغيير والتقدم بالمجتمع، ولعلاج هذه المعضلة يستوجب المبادرة من الدول التي تتربع على قمة السلطة وتدير المجتمع أن تعيد النظر في طرح مشاريعها الإصلاحية بما يتلاءم ومستوى المتغيرات النوعية التي هزت مجتمعاتنا وأخلت بنظمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومما يحتم عليها المبادرة في تحريك شراكات باتجاه مسارات التنمية والتحديث والانفتاح، تكون مبنية على أسس الدولة المدنية الحديثة التي تحكمها الحرية والديمقراطية والحق والعدالة والإنصاف في التعاطي مع جميع فئات المجتمع ومؤسساته من أحزاب ومنظمات أهلية ومجتمع مدني وافساح المجال لها لتكون شريكاً حقيقياً في الممارسة السياسية وصنع القرار، آخذة بعين الاعتبار طبيعة موقع بلداننا في النظام العالمي والمتغيرات التي تتأثر بها وبمستويات متباينة في مختلف المجالات.

وقد اقترحت الورقة بعض المقترحات ومنها المشاركة السياسية الحقيقية القائمة على مبدأ المواطنة وممارسة حرية الرأي والتعبير وإرساء المؤسسات التشريعية على أسس ديمقراطية وعدم إفراغ العملية السياسية والانتخابية من مضمونها، وتطبيق مبدأ تداول السلطة وإفساح المجال لقوى المجتمع من التعبير عن رأيها وموقفها استناداً إلى الثوابت الوطنية الجامعة، وإرساء الحوار السياسي الوطني عوضاً عن الحلول الأمنية وتعميق شعور الانتماء بالمواطنة من خلال إرساء العدالة الاجتماعية واستقلال القضاء المنصف وتطبيق القانون دون تمييز، وتعزيز مبدأ الشراكة المجتمعية مع كافة الأحزاب والمنظمات الأهلية ونشر قيم التسامح والعفو وتعميق شعور التعاطف بين المواطنين وعدم تأليبهم على بعض لأسباب طائفية أو مذهبية أو إثنية، وإرساء مشاريع للاصحلاح الاقتصادي والاجتماعي وتنقية الخطاب الإعلامي من التحريض وضبط إيقاعه، فضلاً عن الاهتمام بالشباب وإدماجهم واستيعابهم من وضع التهميش والفراغ والبطالة، أما على المستوى التربوي فلابد من إعادة النظر في عملية التنشئة الاجتماعية.

المراجع والمصادر

- ابراهيم (د.حسنين)، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت.

- خان (رشيد الدين)، «العنف والتنمية الاقتصادية»، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، عدد 37.

-ساريّ (د.سالم)، ثقافة العنف المجتمعي وأسئلة التنمية والتحديث (بحث)، مجلة فيلادلفيا الثقافية،عدد8، 2011.

- ليلة (علي)، تقاطعات العنف والإرهاب في زمن العولمة، مكتبة الإنجلو المصرية، 2007.

- ليلة (علي)، العنف في المجتمعات النامية، المجلة الجنائية القومية، عدد 2، 1974.

- غدنز (أنتوني)، علم الاجتماع، مركز دراسات الوحدة العربية، 2005.

- (فيو) بيير، «العنف والوضع الإنساني»، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1985.

العدد 5158 - الخميس 20 أكتوبر 2016م الموافق 19 محرم 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً