رجل وُلِدَ في 29 فبراير/ شباط العام 1912، وتوفي في 29 فبراير/ شباط سنة 2004. عُمْرٌ قوامه اثنان وتسعون عاماً بالتمام، بدأت أولى سنيه في الولايات المتحدة الأميركية (مولداً) وانتهت كهولته في لبنان (رحيلاً). إنه الأديب والشاعر العربي الكبير سليمان كتاني، الذي ومع الأسف عاش ومات مجهولاً (بالنظر إلى شخصه وإنتاجه)، دون أن يُنصفه من كان يُفتَرض أن يُنصفوه أو ينقدوه.
وعلى رغم ولادة كتاني في ولاية مَيْن الأميركية، إلاّ أنه لم يبقَ فيها سوى عامَيْن، إذ ما لَبِثَ أن عاد به والداه (يوسف ودليلة) إلى لبنان وعمره لا يتجاوز العامين. فتعلّم في مدارس قرية بسكنتا بقضاء المتن - جبل عامل، حيث أظهر تميزاً فريداً جعله أحد أبرز طلاب معهد الحكمة، لينال درجة الدكتوراه في الفلسفة وعمره 20 عاماً. وهو إنجاز مثالي أن يحصل فيه شاب على تلك الدرجة وهو في ذلك العمر.
وإذا ما علمنا أن العلامة عبدالله البستاني والمبدع طانيوس ملحمة والأب فيليب السمراني كانوا أستاذة لـ سليمان كتاني، فليس غريباً أن يكون تلميذهم بهذا التميّز في العلم وتدفق الأدب والبلاغة، وفي نفس الوقت ميالاً إلى الحس القومي الذي ولجه في الحادية والعشرين، حين أصبح عضواً فاعلاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي أسّسه انطوان سعادة (1904 - 1949).
كان سليمان كتاني أديباً مسيحياً بليغاً، كَتَبَ عن الرسول محمد (ص) وعن ابنته الزهراء وعن 7 من ذريّتها ما عجزت الأقلام أن تخط مثله في حقهم من حيث الجمال والروعة والسّبك، حتى قال أحد العلماء معلقاً على كتاب المرحوم كتاني في الإمام علي بن أبي طالب: «لعل الكتاب بأسلوبه البلاغي أول كتاب في موضوعه جاء منسجماً مع شخصية لها مثل نهج البلاغة».
عندما توفي كتاني كان قد مضى عليه في الكتابة 72 سنة. كان يكتب الأسفار والمسرحيات بأسلوب بديع. وعلى رغم كونه مسيحياً إلاّ أنه لم يكتب للمسيحيين فقط، بل كتب للمسلمين عن شخصيات آل الرسول، وأبدع في وصفهم بلاغياً بشكل لا مثيل له، لذلك كان جسراً بين الديانتين السماويتين، فأغرِمَت به الكنيسة وأجلَّه أصحاب المسجد ولابسو العمامة.
وعندما توفي كتاني وسُجِّيَ في كنيسة مار جرجس، وقف أمام جثمانه رجلا دين، أحدهما مسيحي صلى عليه، والآخر مسلم قرأ على روحه سورة الفاتحة. لقد كان شخصية وحدويّة، ذات قدرة على التواصل. وللعلم، فهو وفي غير مرة، كانت تُقام في بيته صلاة للجماعة، يؤمها رجل دين مسلم، وكان كتاني يؤديها معهم، ويحتفي بتكرارها. كان كذلك حتى اختاره الله.
في إحدى كتاباته التي تتجلى فيها إنسانيته كان يقول في تعليقه على آل الرسول: «إنه البيت الذي جعل النبي العظيم حدوده مربوطة بحدود أخرى، هي أبعد من القربى، وأثبت من خطوط الانتساب، في مُجتمع سينسى انتسابه إلى كلِّ بطن من بطونه القبائليَّة، ليبقى له فقط انتساب إلى القيمة المُجتمعيَّة الكبرى، التي قدَّمتها له الرسالة، وجعلته بيتاً واحداً لمجتمع إنساني واحد».
قبل سنوات وعندما طلب منه أحد مراكز الدراسات في بيروت أن يكتب كتاباً «جديداً» في الحسين بن علي، يكون بمثل ما سبق للأديب أن كَتَبَ في جدّه النبي وأمه فاطمة وأبيه علي وأخيه الحسن، أجابهم بتواضع «قلت في نفسي: ومَن مِن الأربعة هو كريم لو لم يكن مُشتقَّاً مِن قضيَّة كريمة، صبغتهم جميعاً بلونها الكريم؟ وذلك كان شأن الكاتب الذي تناول قلمه وراح يرسم فيهم».
وعندما خرج الكتاب إلى النور كانت لغته لغة مختلفة فعلاً. فكأن كتاني لم يكتب قبله بمثل روعته، حتى قال آخرون: ماذا أبقى الرجل لنفسه كي يكتب لو أراد أن يكتب مستقبلاً. بدأ الكتاب بمباهلة رائعة يقول فيها: «إيهٍ أيُّها الحسين. أتكون الياء مضفورةً عليك شامةً مِن عنبرٍ في غنجة التصغير؟ أم أنَّها دعجة العين، يتمُّ بها التصوير والتحضير والتكبير؟
ثم أضاف «يا للياء الرخيمة! كأني هكذا أراها تُرخَم، بك، وتُرسَم فيك، وكأني أسمعها تقول: هل أنت مُصغَّر الاسم المُطيَّب بالبَلْسَم يا بن المُطيَّبين! أم أنك اللحمة المُندمجة بخاصرة التوأم يا نَهدة التوَّاقين! اثنان في واحد أيها الحسن المُكمَّل بالحسين: في وحدة التوق ووحدة الشوق ووحدة العين، يا للقضية تبيضُّ إذ يبهرها حَقٌّ، وتَحمرُّ إذ يضنيها غَسق وتبقى هي هي في وحدة الشفرة وفي لون السنا. وما بين الطُّهر والفسق وترٌ يطيب هناك وينهدُّ هنا! هكذا الحسن يبيضُّ صدقاً! وهكذا الحسين يحمرُّ وريداً! وقد أسمى كتابه بـ : الإمام الحسين في حلّة البرفير (لون القرمز أو الوردي).
لقد كان كتاني أحد أعمدة الأدب العربي، وربما خاتم لمرحلة وجيل هو من أكثر الأجيال إبداعاً. نعم، ولأنه مسيحي الدِّيانة، لم يتبحَّر في عقائد الإسلام ولا في فقهه ولا في المواقف من رجالاته بصورة شاملة، كي تجعله محيطاً بكل شيء فيه وإبداء المواقف الدينية المفترضة تجاهه، لكنه وفي جانبه الأدبي يبقى الرجل غاية في الإبداع حين يتحدث عن شخص الحسين، وهو حديث أولى أن نقرأه من آخر غثّ بتنا نسمعه عن (وحول) الحسين من أشخاص لا يملكون أدنى درجة من المسئولية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5157 - الأربعاء 19 أكتوبر 2016م الموافق 18 محرم 1438هـ
ربما لا ينافسه في هذا الباب سوى العلامة الشيخ عبدالله العلايلي. عملاقان وسيظلان. شكرآ لقلمك الذي أحب.
مبدع...استمر
عجبني تفصيلك لما أجمله الكاتب قاسم حسين في مقاله الأمس
قرأت له كتابين, عن فاطمة الزهراء عليها السلام و الاخر عن الامام الحسن عليه السلام. و كلا الكتابين كانا قد حازا على المركز الاول في مسابقة للتأليف. شكراً استاذ لتعريفنا بهذه الشخصية الفذة.