لماذا يغيّب دور المثقف البحريني عن المسرح السياسي والاجتماعي والتنموي؟ السؤال طرح بصورة جدلية في الأوساط الثقافية البحرينية بإلحاح. الواقع أن المثقف البحريني يبحر بين الصخور، ولم يجد حلا توافقيا مع البيروقراطيين التقليديين، وبدا هذا واضحا من تذمرهم ونفورهم من كل المثقفين المؤهلين والأكفاء، وبذلك استطاعوا إبعادهم عن المسرح السياسي والاجتماعي والتنموي، وبذلك لم يستطع المثقف لعب دور أساسي وقيادي في مجتمعه يسهم في تطور وازدهار وتقدم البحرين.
النقاش الجدلي تناول بإسهاب أهمية مساهمات المثقف البحريني الفردية في المسيرة التنموية، والمشكلات التي يتعرض لها المثقف البحريني في موقع عمله، وعلاقته برؤسائه، الأمر الذي نتج عنه نشوء أزمة خطيرة في التنظيم والهيكل الإداري للدولة بعد فقدان معيار الكفاءة. كما أوجد فراغا ملحوظا في المناصب القيادية في البلد، لعدم تمتع الكوادر الإدارية بالمؤهلات الكافية لتشغيل الجهاز الإداري على أسس علمية وحديثة مدروسة ومخطط لها.
الحقيقة أن المحاولات البيروقراطية لتغيير الثوابت والمرجعيات العلمية، وعدم الاعتماد على قدرات المثقف البحريني الإبداعية، تضعف جهود الدولة التي حققت نجاحات في مجال التنمية البشرية، وتسقط الخطط التنموية المستدامة التي تعتمد على الكوادر العلمية لإدارة المشاريع التنموية.
الجدل الموسع حول المثقف وهويته وصفاته وإسهاماته الفكرية ونوعية منتجه الفكري المقدم إلى المجتمع البشري، قسمت المجتمع بين مؤيد لدور المثقف في عملية التنمية، ومعارض لانتشار الفكر العلمي المتطور، معتبرا هذا الفكر نمطا من أنماط الإدارة البرغماتيكية، وغير راغب في أن يحل محل النظام البيروقراطي التقليدي الأتوقراطي.
طرحت أسئلة عدة عن المثقف: هل يستحق إعطاؤه دورا أكبر وأهم في الحياة السياسية والاجتماعية أو الهيكل التنفيذي للدولة؟ أم أن الاعتقاد السائد أن الحجج المساقة بأن المثقف البحريني متكبر ومغرور بنظرته الفوقية إلى الآخرين، هو السبب الرئيسي لاحتقار البيروقراطيين له، وبالتالي فضلت عزلته عن فئات المجتمع الأخرى، ولم تمكنه من الاندماج فيه، كما هو حال المثقف في المجتمعات العربية والنامية المتخلفة والفاسدة إداريا.
المشكلة تكمن في أن المثقف البحريني كالمثقف العربي يعتقد أن أفكاره لها مرجعية علمية ذات ثوابت قابلة للتطبيق، ويجب الاعتماد عليها لتطور هذه المجتمعات ونموها، وتحديث فاعلية الوظائف، بعد نجاح المثقفين في إدارة مؤسسات المجتمع المدني البحرينية التي لها دور في المشاركة في صنع القرار.
التنوع الثقافي
تزايد التنوع الثقافي بشكل سريع منذ منتصف القرن التاسع عشر، وأسهم بشكل مباشر في ثراء وتطور ونمو النتاج الفكري للمثقف البحريني وتطوره الحضاري. تعدد مظاهر التقدم والتطور في مجالات العلم والتكنولوجيا، وأساليب التبادل الثقافي بين البحرين والحضارات الأخرى، ساهم أيضا في ارتفاع رصيد المثقف البحريني من الحصاد الفكري العالمي المتقدم، ما مهد الطريق لعملية التمازج الثقافي.
ولا شك في أن التبادل الثقافي بين شعوب العالم انتشر بسرعة مذهلة، بسبب انتشار وسائل الاعلام الحديثة والوسائط الإعلامية والإلكترونية التي لا حدود لها، وظهور ثورة المعلوماتية بقيادة الإنترنت تعتبر من أهم وسائطها. وبذلك أصبحت معظم التقاليد الثقافية في العالم على اتصال دائم ومستمر ببعضها، فبمقدور الشخص على سبيل المثال أن يجد موسيقى الجاز الأميركية والكيمونو الياباني والرقص الشرقي، في أي مدينة كبيرة في العالم. ويخشى المثقفون في العالم أن تكون العولمة الثقافية سببا في تشابه الثقافات التي من المفروض أن تكون متنوعة. ولكن الناس ينشئون ثقافات محلية جديدة كل يوم، بالسرعة التي يتعلمون بها هذه الثقافة العالمية، التي لا تغطي سوى نطاق محدود من الثقافة المعروفة، وهذا يسمح للثقافات الجديدة المحلية بالنمو والازدهار.
تعريف المثقف
للوصول إلى حقيقة مفهوم المثقف، يجب أن نستطلع أولا البيانات التي تعرف المثقف. أكثر النظريات وضوحا عن تعريف المثقف، هي نظرية اوغوستين للمعرفة. نظرية اوغوستين للمعرفة تعرف المثقف أو المفكر: بأنه الذي يستطيع أن يجادل بأن المقدرة الإنسانية، تجعل الأحكام التي يصدرها المثقف أو المفكر حقيقية، مما يمكنها من دخول العقل الباطني للفرد من الخارج. كما أن المعلّم الإنساني لا يمكن أن يعمل أكثر من مساعدة تلميذه على رؤية ما عرف مسبقا عن الحقيقة، من دون أن يدرك طبيعة الحقائق المقبلة، مثالا على ذلك، الأحكام الحدسية: ما هي إلا عملية رياضية لتقدير القيم الأخلاقية؛ وليست من إنشاء العقل الفردي، لأن صياغتها بشكل صحيح تتقبلها العقول المشابهة كلها. إذا المثقف الحقيقي من يجد الحقيقة ولا يجعل الحقيقة تجده. والكلمة الغنية بالمعلومات هي التي تكشف الحقيقة.
المنظور الآخر للفكر والثقافة نجده في فلسفة التأريخ والتفسيرات المتنوّعة للفلسفة والفكر والثقافة الإنسانية. النظريات الفكرية المتعددة تركز على أهمية الخبرة والثقافة والمعرفة الإنسانية، وقوة المثقف أو المفكر على الملاحظة والتتبع، ووزن وقياس الحقائق لإصدار الأحكام عليها. القدرات الفكرية الفردية تختلف من مثقف إلى آخر، حتى أن المثقفين أنفسهم انقسموا في تعريفهم للمثقف وقدراته. الواقع أن المثقف يتبع نظاما ثقافيا يتمسك به، للتأكد من ضبط النتائج العلمية التي يتوصل إليها، لذلك تختلف نظرته إلى الواقع الذي يعيشه عن غيره من الأفراد، كما تختلف نظرته إلى الحياة الإنسانية. والأنظمة الانضباطية التي يتمسك بها، فيها كثير من التشدد والاطارية. هذه القواعد والأنظمة التي يلتزم بها المثقف، من الخصائص البارزة والمميّزة للحضارات وتنوع ثقافاتها المستمدة من الأديان والمعتقدات الإنسانية، التي ظهرت على مر التأريخ إلى حد الآن.
أسباب تغيّب المثقف
السؤال: ما هي أسباب تغيّب المثقف البحريني ومشروعه الثقافي؟ وما هي إسهاماته الفردية؟ وهل شاركت الدولة في إحياء المشروع الثقافي البحريني؟
المثقف البحريني لا يمتلك مشروعا ثقافيا خاصا به، على رغم استفادته من التنوع الثقافي العالمي، وتعدد المؤسسات الثقافية في البلد، المنصهرة في إطار مؤسسات المجتمع المدني التي تشهد تطورا ملحوظا. المشروع الثقافي البحريني يجب أن يوضع في أطر تنظيمية، إما في شكل برامج عمل، أو في شكل اطروحات تمتلك منظورا مستقبليا لدور المثقف البحريني في المجتمع، المهمش حاليا. أو نهج علمي مدروس لمسار عمل وإنتاجية المثقف البحريني، لتسجيل مساهماته في تطور ونمو المجتمع البحريني. المشروع الثقافي البحريني لا يمكن أن ينجح بمبادرات فردية، المطلوب هو مساندة الدولة في تطوير الإنتاج الثقافي والعلمي والتقني والأدبي والإبداعي، ونشر مكوناته والمساعدة على انتشاره. مساندة المثقف البحريني وتهيئة الظروف والبيئة المناسبة للعمل والإنتاج، والاستفادة من خبراته ومؤهلاته بإشراكه في المناصب القيادية في البلد، خصوصا في مجال الاعلام والثقافة والتعليم الذي يشهد انحدارا في مستواه قد يؤدي إلى كارثة.
من أهم أسباب تغيّب المثقف البحريني، العلاقة غير الحميمة بين أصحاب القرار البيروقراطيين والمثقف البحريني. البيروقراطيون ينظرون إليه على أنه يهدد مناصبهم، وأن وجوده في كادر الإدارة سيفوت الفرصة عليهم في الاستئثار بصنع القرار، والحفاظ على مصالحهم الذاتية، نظرا إلى تفوقه بالخبرة والمؤهل العلمي الذي لا يمتلكونه، وإلى قدرته على إحداث تغيير ملموس في المجتمع البحريني. وفي ضوء تلك الحقائق تنشب معارك على نمط البقاء للأقوى.
ولكن ما هي إسهامات المثقف البحريني الفردية؟ لا شك في أن هياكل الدولة تعترف بوجود المثقف البحريني واسهاماته الفكرية والثقافية، إلا أن كوادر الجهاز الحكومي والأهلي البيروقراطية والتقليدية، تنظر إلى المثقف البحريني بسلبية مفرطة، وتعتقد انه محدود الإنتاجية ومقل في الأعمال الثقافية الجماعية. العتب دائما يوجه إلى الدولة وأجهزتها لأنها لم ترع المساهمات الفردية للمثقف البحريني، ولم تشركه في الخطط التنموية للدولة من ناحية. ومن ناحية أخرى، يوجه العتب إلى المثقفين البحرينيين أنفسهم، لأنهم يبحرون بين الصخور، ولم يتفاعلوا في بوتقة العمل المشترك، بسبب تعدد أطيافهم السياسية، ولم يتجاوزوا الواقع البحريني الحالي الذي يغيّب المثقف البحريني عن الساحة، ويشكك في قدراته، وينتقد تصرفاته وأسلوبه في العمل والإدارة. وعلى العكس من ذلك نشهد صراعا مريرا بين المثقفين أنفسهم بسبب تناقض انتماءاتهم الفكرية والسياسية.
استمرار الصراع بين فئات المثقفين سيحد من مهمة الانتقال من التغير الكمي إلى التغير الكيفي للمثقف البحريني. قد يجادل البعض أن تعدد الآراء دليل قوي على حيوية العمل الثقافي البحريني، لكن إذا كان الاختلاف في الرأي لمصلحة النتاج الثقافي البحريني فيجب أن تنعكس نتائجه على العمل المشترك.
لماذا يعاني المثقفون في البحرين من مشكلة التغيّب؟ لأنهم يعتقدون أن الدولة لا تشاركهم فرصة صنع القرار، المثقف البحريني يؤمن أن إلمامه بالعلم والمعرفة والمؤهل والقدرات الإبداعية، سيضفي على فكره صفة الحضارة والتطور، وأن مشاركته في صنع القرار ستضمن نجاح القرار السياسي الذي يخدم مراحل التنمية المتعددة وتطور المجتمع البحريني. إذا الاستغناء عن خدمات المثقف البحريني وفكره لا يتوافق ونهج ومكونات العهد الجديد، الذي يشجع الإبداء بالرأي والرأي الآخر. إذا، الصحوة الثقافية البحرينية الجديدة، ستمهد إلى اندماج المثقف البحريني في المجتمع بقبول الرأي والرأي الآخر. علما بأن الآراء التي يطرحها المثقف العربي في بعض الدول، مازالت تعتبر خارجة على القانون، ويخلع على المثقف أفظع الصفات والعبارات القاسية لأنه أدلى برأيه في مسائل حيوية تمس جوهر النظام السياسي القائم.
المثقف هو نتاج مجتمعه، ويجب أن تكون هناك ثقة بين هذا المجتمع وبين المثقف والقيادة، حتى يستطيع المثقف تقديم أفضل ما عنده من علم وفكر لصالح الوطن. كما أنه من واجب المجتمع والدولة تقديم حماية له ولإنتاجه العلمي والفكري، ومن متطلبات الحماية وضع أنظمة وقوانين لتقييم المثقف البحريني، وايجاد العمل المناسب له، والمحافظة على نتاجه الفكري والأدبي والعلمي والإبداعي والفني. لا شك في أن المصلحة مشتركة بين المثقف والدولة، لأن المثقف بحاجة إلى مؤسسة تحميه، وصاحب القرار بحاجة إلى فكر المثقف وعلمه لتنفيذ خطط التنمية في البلد. إذا بناء الثقة بين الأطراف الثلاثة أساسي لترابط أطراف هياكل الدولة والمجتمع في ظل المسيرة الديمقراطية. وتغيّب دور المثقف ليس في صالح الوطن
العدد 14 - الخميس 19 سبتمبر 2002م الموافق 12 رجب 1423هـ