العدد 14 - الخميس 19 سبتمبر 2002م الموافق 12 رجب 1423هـ

... هذا يحصل في الجزائر

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يوميا تنقل أنباء الجزائر أخبار المذابح والمجازر والكمائن، وسقوط عشرات الأبرياء في ضواحي المدن وقصباتها، وقتل عشرات الأسر والعائلات من دون شفقة ولا رحمة في مناطق الريف وقراه.

الإسلاميون يتهمون الأجهزة بتنظيم تلك المجازر وإلصاقها بالإسلاميين تشفيا من أبناء القرى والقصبات وعقابا للسكان على تصويتهم للمترشحين من أعضاء «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، حين عقدت الانتخابات قبل أكثر من عقد من الزمن.

الأجهزة تنفي الاتهامات وترد الكلام بالقول: إن تلك المذابح هي من فعل تنظيمات متطرفة أعلنت «الجهاد» على المجتمع بعد أن خذلتها الدولة وكفرت الناس على قعودهم حين طالبتهم المنظمات بالقيام ضد الدولة الكافرة.

المحايدون (المراقبون الدوليون) يوزعون المسئولية على الطرفين ويؤكدون أن تحقيقاتهم، المستقلة والخاصة والبعيدة عن الرقابة، أثبتت وجود تداخلات مريبة وغريبة بين التطرفين: تطرف الدولة وتطرف المجتمع.

بعض اللقاءات التي عقدت مع جهات كانت تعمل سابقا في الأجهزة مالت إلى القول: إن هناك شبكات معقدة من «التنظيمات السرية» ممولة من فئات علمانية متطرفة في الدولة تغذي التطرف بغية طرد الأهالي من أراضيهم لإعادة بيعها لشركات أجنبية تديرها هيئات محلية.

وبعض المعلومات التي سربها الكثير من ضباط الشرطة أكد وجود صلات سرية بين جهات متطرفة ترفع شعارات تكفيرية وجهات رسمية غير مرتاحة من انفتاح الرئيس الجزائري على المعارضة ومحاولاته التفاهم مع التيار الوسطي ـ المعتدل لوقف الكارثة والمحافظة على ما تبقى واحتواء التطرف باتجاه تأمين الاستقرار وتأسيس قواعد وطنية ثنائية وثابتة تجهد من أجل إعادة بناء ما تهدم والتقدم بالبلاد نحو الخير والعدالة.

وترد معلومات أخرى مشيرة إلى وجود اتجاهات حاقدة تستخدم «الإسلام» لتغطية أعمالها الدموية والتدميرية. وهذه الاتجاهات تنطلق من دعاوى تكفيرية ترى في الدولة خصما يجب استئصاله وفي المجتمع قوة جاهلية يجب تهذيبها وإعادتها إلى النهج القويم عن طريق القوة والبطش من دون تمييز بين رجل مسن وطفل رضيع. كل هذه المعلومات المتضاربة لم تنجح في توضيح صورة الموقف وتقريب المشهد الجزائري من عقل الناس وتقاليدهم، وثقافة التسامح والرأفة التي تأسست عاداتهم المتوارثة عليها. فالصورة ضائعة والمشهد يلفه الغموض، وسيبقى الأمر على ما هو عليه الآن إلى أمد غير منظور، لأن التقديرات كلها تجمع على أنه من الصعب أن يفوز أحد الطرفين على الآخر بشكل نهائي وحاسم. فالدولة قوية وغنية وتستطيع القتال إلى أمد طويل من دون تعب أو كلل. والمجتمع قوي تاريخيا وتعوّد على الممانعة والصبر والجلد وتحمل المصاعب والمحن وبالتالي فهو يملك مقومات الصمود الأهلي ويستطيع إلى أمد طويل تغذية كل فروع المنظمات بالمزيد من الشباب (العاطل عن العمل) وكذلك المزيد من التطرف والضحايا. في الجزائر تبدو المأساة لا نهاية لها حتى لو نقلت الأنباء وجود غلبة في مكان وضعف فرقاء الصراع وتعبهم في مكان آخر. فالحدس السياسي لمختلف الفئات يشير إلى استمرار الحال القاتمة إلى فترة لن تكون قصيرة الأجل.

والسؤال: لماذا؟ لماذا يحصل هذا الأمر في بلد كان في الخمسينات والستينات قبلة المسلمين السياسية مثيرا إعجاب واستحسان كل العالم لما عرف عنه من حب التضحية والشهادة من أجل الاستقلال السياسي عن فرنسا ودفاعا عن تاريخ البلد وهويته الإسلامية؟

لماذا؟... سؤال كبير حين نقرأ الإجابات أو نسمعها. فكل الأجوبة صغيرة لا معنى لها أمام ما يحصل من تدمير وخراب وقتل في بلد ضخم الحجم في مساحته الجغرافية، ويملك من الثروات البحرية والطبيعية والخامات ما يكفي العالم العربي كله وليس 29 مليونا من الناس.

صدرت الكثير من الكتب والمقالات والدراسات باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية محاولة شرح وتفسير ما يحصل من «الداخل» الجزائري... وحتى الآن لم تصب تلك الجهود البحثية الهدف مباشرة. قيل الكثير عن «التربية السياسية» التي أسست فرنسا قواعدها الفكرية في فترة الاستعمار. وقيل الكثير عن مناخ البلد وتعقيدات جغرافيته التي تجمع بين الساحل (البحر المتوسط) والمرتفعات الجبلية الوعرة، والمنبسط الصحراوي الممتد إلى وسط إفريقيا. وقيل الكثير عن التركيبة السكانية وامتزاج عناصر المجتمع من روافد ديموغرافية متنوعة جاءت من أماكن متباعدة واستوطنت الجزائر نظرا إلى غناها الطبيعي وتعدد مواردها من مياه وأراضٍ زراعية وجبال ووديان وصحراء في الجنوب والبحر المتوسط في الشمال. وقيل الكثير عن دور فرنسا والصراع مع الولايات المتحدة للسيطرة على المغرب العربي وثرواته. وقيل الكثير عن ثقافة اللاتسامح التي كرسها حكم الحزب الواحد خلال فترة التحالف مع السوفيات في الستينات والسبعينات والثمانينات. وتحدث المفكرون أيضا عن فشل تجربة التصنيع الثقيل وبوار الأرض وانهيار الريف وعجز المدن عن استيعاب جيوش العاطلين عن العمل النازحة من القرى طلبا للرزق. وتكلم آخرون عن فساد النخبة في الدولة وسرقة أموال العامة وتحويلها إلى مصارف سويسرا وأوروبا وتجويع الناس في بلد يتمتع بكل مقومات الاكتفاء الذاتي.

كل هذا قيل وكُتب وسُمع ونُشر... وحتى الآن بقي السؤال أقوى من كل الأجوبة: لماذا يحصل هذا في الجزائر؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 14 - الخميس 19 سبتمبر 2002م الموافق 12 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً