ترتبط ذاكرتي باسم فاروق شوشة فقيد مصر واللغة العربية المعاصرة الذي رحل عن دُنيانا فجر الجُمعة الماضي، بذكريات أثيرة على قلبي خلال أواخر ستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي، والمتزامنة مع مراحل دراستي الثلاث، الإعدادية والثانوية والجامعية. وطوال المرحلتين الأولى والثانية، كان يجذبني برنامجه اليومي في إذاعة القاهرة «لغتنا الجميلة» الذي يُذاع ليلاً، وأتذكر كان وقتها يحظى بشعبية عربية واسعة إبان الحقبة الناصرية، حيث يتابع الكثير من العرب إذاعاتها (صوت العرب، والقاهرة، والشرق الأوسط) قبل ظهور الفضائيات التلفزيونية العربية، وأتذكر كان أجمل أوقات السنة لاستماعي إليه في ليالي الصيف من جهاز الراديو الترانزستور الصغير، رفيقي في المنام فوق سطح المنزل في زمن لم تنتشر فيه بعد أجهزة التكييف في القرى. كما مازلت أتذكر ما يضفيه الاستماع إلى ما يلقيه من أشعار عربية جميلة، وعيناي شاخصتان إلى النجوم المتلألئة في سماء صافية من هالة رومانسية، فيما استمرت متابعتي لبرنامجه بعدئذ خلال المرحلة الجامعية بالقاهرة، وإن لم تكن منتظمة كما كانت في الوطن قبلاً.
واستمر برنامج الفقيد شوشة في إذاعة القاهرة عشر سنوات (1967 - 1977) أي بالضبط بالتزامن مع تلك المراحل الدراسية الثلاث من تعليمي تقريباً، وبعدها تولى الفقيد تقديم برنامج «أُمسية ثقافية» في التلفزيون المصري، كما عُين عضواً في مجمع اللغة العربية، ورئيساً للجنة النصوص بالإذاعة والتلفزيون، وعضواً في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، ورئيساً للجنة المؤلفين والملحنين، وشارك في الكثير من مهرجانات ومؤتمرات الشعر واللغة العربية. كما كتب في مجلات مصرية وعربية كثيرة منها «العربي» الكويتية في زاوية «جمال العربية»، خلفاً للراحل محمد خليفة التونسي (نسبة لقرية تُسمى تونس بمحافظة سوهاج)، واستحق بجدارة نيل جوائز مصرية وعربية ودولية في مجال إبداعاته وتخصصاته طوال مسيرته الحافلة بالعطاء، وكان آخرها قبيل وفاته بمدة وجيزة جائزة النيل وهي أعلى جائزة تمنحها الدولة المصرية لكبار أدبائها المُبدعين.
في مطلع صيف 2010 تلقيت دعوة إعلامية كريمة من هيئة الاستعلامات المصرية كان من ضمن فقرات برنامجها زيارة استطلاعية لهذا الصرح الإعلامي المصري الكبير، لكني التمست من الإخوة المسئولين فيها ترتيب زيارة لي للالتقاء بفقيدنا الكبير الشاعر فاروق شوشة بمكتبه في مجمع اللغة العربية بالزمالك، حيث كانت تحدوني الرغبة في إجراء حوار صحافي معه، والتعرف من خلاله على آرائه في الكثير مما يشغل بالي من ملاحظات بشأن واقع لغتنا العربية الراهن وعدم تطورها، واستجاب الإخوة في الهيئة مشكورين، وتم ترتيب اللقاء غير المُدرج في الأصل ضمن برنامج الزيارة الإعلامية على عجل، ولكن عند وصولي مقر المجمع اعتذر مدير مكتبه بلطف لعدم تمكن الفقيد من الحضور لظرف طارئ حدث للتو خارج عن إرادته، وأوصلني تليفونياً به وكرر من جانبه الاعتذار على أمل أن نلتقي في فرصة قادمة، إلا أنني من مقر المجمع اللغوي كنت سعيداً جداً بما أهداه لي من مجموعة قيّمة من مجلات وكتب ومجلدات من إصدارات المجمع اللغوي المصري.
وتشاء الصدف أن ألتقيه في المؤتمر الخامس للغة العربية بدبي في مايو/ أيار الماضي، والذي ألقى فيه كلمة ضافية قيّمة عن لغتنا الجميلة، وفي استراحة شرب الشاي بعد نهاية يوم عمل مضنٍ من أعمال المؤتمر كانت لي معه دردشة قصيرة، امتدت زهاء نصف ساعة بعد أن عرفته بنفسي مقدماً ورحّب بي بحفاوة بالغة، وبخاصة بعدما ذكّرته بموعد لقائي معه في مكتبه أثناء زيارتي للقاهرة صيف 2010، والذي اعتذر عنه لظرف طارئ كما أشرت آنفاً، إلا أنني لم أشأ أن أجعل تلك الدردشة تمتد طويلاً، وإن انتهزتها لإثارة بعض تلك التساؤلات التي راودتني فكرة طرحها في حوار مطوَّل يُعد لتحضيره مسبقاً من جانبي، ولاحظته يدوّن بعض ما أثرته من ملاحظات في قضايا اللغة في مفكرة صغيرة لديه، لكني لم أشأ أن أجعل هذه الدردشة، كما قلت لتكون حواراً صحافياً لم نتفق عليه، ولم أعد له سلفاً، ولاسيما أني لمست من وجهه ما يعتريه من إرهاق، وإن حاول أن يخفيه بابتسامته البشوشة. ومن نافلة القول إن رحيله وهو مازال في ذروة عطاءاته الأدبية والإعلامية على رغم إكماله عقده الثامن (80 عاماً) بعد مسيرة طويلة حافلة بالإنجازات، ليشكل خسارة للشعر واللغة العربية بوجه عام باعتباره فارساً من فرسانها المبدعين، وعلماً من أعلامها الكبار. رحم الله فقيد مصر والأمة العربية الشاعر والإعلامي الكبير فاروق شوشة.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5155 - الإثنين 17 أكتوبر 2016م الموافق 16 محرم 1438هـ