لا يزال الجدل قائماً بشأن مدى قدرة الأغنية البديلة، أو الملتزمة، في شدّ الجمهور العربيّ واستقطابه؛ ذلك أنّ «أغاني ما يريده الجمهور» هي الطاغية، وهي التي تروّج لها الماكنات الإعلامية التجاريّة بشكل مستمرّ. لكن، لم يمنع ذلك من صمود زمرةٍ من الفنانين العرب المعاصرين في وجه هذا التيار الفني والثقافي الجارف، لعلّ من أبرزهم المطرب التونسي لطفي بوشناق: واحد من صفوة المطربين والملحّنين الذين آمنوا بالأغنية بلسماً للجراحات، واحد من نخبة المبدعين المجدّدين على الدوام لم يرتهن فنّهم لما يريده الجمهور، وما تريده وسائل الإعلام التجاريّة، بل الجمهور مَن ارتهن لما يبدعه الفنان، حتّى اشتدّ الحنين وكان اللقاء.
مساء الخميس 13 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وتحت عنوان «لقاء»، استهلّ مهرجان البحرين الدولي للموسيقى، في نسخته الخامسة والعشرين، أولى سهراته مع المطرب والملحّن التونسي لطفي بوشناق (وُلد عام 1952) عازف العود، وواحد من أهم رموز الموسيقى التونسية والعربيّة. امتلك مشروعاً موسيقياً كبيراً زاوج فيه بين الأغنية الحديثة بإيقاعها السريع والموروث الشعبيّ التونسيّ الكلاسيكيّ؛ إذْ قام بجمع تراث الغناء الصوفي والمألوف والابتهالات الدينية كي يحافظ على التراث الموسيقي العريق، وأضفى عليه لمسات الحداثة الموسيقية العالمية. كما مزج في أعماله بين العاطفي والسياسي، التراث والإبداع، ليصبح واحداً من أكثر الموسيقيين العرب تميّزاً وأصالة، وينال شهرة كبيرة في القطر العربي كله وليس في تونس فقط.
مساء الخميس الماضي، وفي المسرح الوطني بالبحرين، استطاع بوشناق بما يملكه من كاريزما، وبما أوتي من طاقات إبداعية مختلفة، أن يبحر بجمهوره في الزمان والمكان حتّى أخذهم بعذب ألحانه إلى أقاصي الخيال، وردّهم بقوة كلماته إلى واقع الحال، وذلك من خلال مختارات من أغانيه. غنّى الموشّح «عجبي منك» حتّى أطرب الأسماع، وأدّى أغنيته «حبيتك واتمنيتك» كما لم يؤدّها من قبل، ثمّ كانت أغنيته الرائعة «نغنّي لنحيا» التي تفاعل معها الجمهور تفاعلاً رائعاً؛ حيث لامس لطفي بوشناق أحاسيس الحاضرين وما تنطوي عليه من حب للحياة والسلام. ثمّ أخذنا إلى عوالم جميلة مع أغنية «ليلى» كلمات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وغرّد وغرّد حتى رسا على شاطئ الطرب التونسي فأمتع في آخر السهرة جمهوره البحرينيّ والعربي بأغنية «يا مزيانة، وإنت شمسي إنت، والعين اللي ما تشوفكشي، وسمراء يا سمراء...» وهو كوكتال من الأغاني التونسية المحبوبة في الخليج لعذب كلماتها وجمال ألحانها وأدائها.
غنّى لطفي بوشناق في حفل الافتتاح بالمسرح الوطني للحياة، للأم، للصغير والكبير، وللفقير والعامل والفنان. غنّى للسلام، غنى للحب والإنسان، وغنّى للغناء أيضاً، فكان الصوت وجمهوره الصدى، وما أروع رجع الصدى من جمهور جاء ليستمع ويستمتع ويُمتع الروح بعذب الألحان، ويردّد مع المطرب لطفي بوشناق آهات الطرب الأصيل؛ طرب تجتمع فيه قوة الكلمة مع اللحن الشجيّ، وصدق العاطفة مع قسمات وجه بوشناق وهي تتشكل كما شاء اللحن وشاءت الكلمات.
ترنّح لطفي بين مقام نهوند ومقام راست ومقام كرد ومقام بياتي، وماج بجمهوره الذي تفاعل معه بعبارات الشكر والامتنان، فبادلهم التحية والإعجاب بأحسن منه؛ سواءً من خلال وقوفه مرات كثيرة تحيّةً لجمهوره، أو من خلال محطات شعريّة ما بين أغنية وأخرى يلقي فيها قصائد لعلّ من أجملها قصيدة «هل دمنا ماء؟ وهل دمهمُ دمُ؟ للشاعر آدم فتحي، والتي اهتزّت لها أركان المسرح وجمهوره العريض، ومنها قوله:
«طبعي السلام وليس من طبعي الشماتة في أحد.
وأرى الحياة تضيق بي وبكل من لا يستبد.
لكنهم سرقوا ترابي والسماء مع البلد
لم يتركوا لي من سلاح في يدي سوى الجسد
يحيا السلام.. يحيا السلام
لكنّني لا أفهم
هل نحن أشياءٌ وهل بشرٌ همُ؟
هل دمنا ماءٌ وهل دمهمُ دمُ؟
آن الأوان..
يحيا السلام
آن الأوان لصحوة يا عالمُ.
سهرة اختزلت الطرب العربي في مكان هو المسرح الوطني، وزمان ليس للنسيان وفنان كروان وريث جيل من العمالقة يأبون النسيان فتذكّرهم في أغنية من ألحان المايسترو عبد الحكيم بلقايد يقول فيها:
«أنا حبّيت واتحبّيت وداريت
واتمنّيت حبي يعيش
ومخبّي لروحي كلام في روحي
وروحي ما تخبّيش
وكلامي شجَر عطشان للفن عطش الجناحين للريش
فينك يا عبد الحي.. يا سلامه.. يا شيخ سيد درويش؟
مهرجان البحرين الدولي للموسيقى، وخلال مسيرة ربعٍ قرن من العطاء، يؤكد فعلاً أنّ «وجهتك البحرين»، من خلال استقطاب عمالقة الفن العربي المعاصر على غرار المطرب لطفي بوشناق. شدّ جمهوره لأكثر من ساعتين بغناء ما شاء لا ما شاءت الجماهير؛ لأنّ الفنان الصادق المبدع يظلّ كالعين التي لا تنضب مياهها تفيض بالعطاء ليرتوي العطاشى إلى مثل طرب لطفي بوشناق، بما يتوفّر عليه من كلمات وألحان وأداء لم تكن لتلج قلوبنا لولا ما تنطوي عليه من صدق ومشاعر إنسانية وحب للسلام والإنسان.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 5155 - الإثنين 17 أكتوبر 2016م الموافق 16 محرم 1438هـ
بوشناق علامة مضيئة في وجه الرداءة ..في وجه الكراهية ...في وجه التشرذم ..في وجه الحروب .. في وجه الانقسامات ..سلمت أناملك أستاذ سليم
لم يتركوا لي من سلاح فى يدي سوى الحسد .. الله الله .. أحسنت يا بو دبوس .. لقد كتبت ولا أحلى عن المطرب الكبير لطفي بوشناق ومهرجان البحرين الدولي للموسيقى .. لقد كتبت بحماس منقطع النظير فى هذا المقال الطويل الشيق الذي نقرؤه ونتمنى ان لا ينتهي! .. ...
سهرة اختزلت الطرب العربي في مكان هو المسرح الوطني، وزمان ليس للنسيان وفنان كروان وريث جيل من العمالقة يأبون النسيان