العدد 5155 - الإثنين 17 أكتوبر 2016م الموافق 16 محرم 1438هـ

ستانلي فيش يستعرض محاضرات لتشومسكي... ما هي اللغة؟ ونظرية النحو العالمي

ستانلي فيش  - نعوم تشومسكي
ستانلي فيش - نعوم تشومسكي

يظل أستاذ اللسانيات، الفيلسوف، والعالم الإدراكي، وعالم المنطق، والمؤرخ والناقد والناشط السياسي، وأستاذ اللسانيات الفخري في قسم اللسانيات والفلسفة بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، الأميركي نعوم تشومسكي (7 ديسمبر/ كانون الأول 1928)، أحد أكبر المفكِّرين في القرن الماضي، والقرن الحالي. اشتغل لأكثر من 60 عاماً، في الحقول المذكورة، وتجاوز ذلك إلى الكتابة عن الحروب والسياسة ووسائل الإعلام، وحصيلة هي أكثر من 100 كتاب. صاحب النظرية التوليدية التحويلية، التي ارتكز فيها على أسس عقلية مع نشر كتابه «التراكيب النحوية» في العام 1957م، ما انفك يراكم اشتغالاته تلك، علاوة على مناهضته لسياسات بلاده في أكثر من محفل وحراك أكاديمي.

هو نفسه أحد الدَّعاة البارزين لـ «نظرية الانقطاع»، بقوله إن «تحولاً عرَضياً واحداً حدث لفرد منذ مئة ألف سنة تقريباً، ما أثار الظهور الفوري للقدرة على اكتساب اللغة (مكوِّن من مكوِّنات الدماغ) بصورة مثالية أو قريبة من المثالية. يجري النقاش الفلسفي، باختصار، كالآتي: أولاَ، وكما هو معروف عن النشوء، فإن أي تغيُّر بيولوجي لكائن حي ينشأ عن تغيُّر وراثي عشوائي في فرد واحد وهذا التغيُّر ينتشر من خلال مجموعته التكاثرية. ثانياً، من وجهة نظر حسابية: التغيير الوحيد اللازم كان القدرة المعرفية لبناء وتجهيز المعطيات المتكرِّرة في العقل (ميزة اللانهائية المتمايزة التي يبدو أن العقل الإنساني ينفرد بها)».

الناقد الأميركي الشهير ستانلي فيش، عُرف بملاحظته التي تلقفتها أوساط أكاديمية، مؤدَّاها، أنه «يمكن للمرء أن يحلِّل أثراً دون قلق مما إذا كان هذا الأثر قد أنتج مصادفة أو عن قصد»، نجده هنا في المراجعة التي كتبها انطلاقاً من ثلاث محاضرات ألقاها تشومسكي في جامعة كولومبيا، ونُشرت في صحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ 9 ديسمبر 2013، لا ينأى في تعاطيه مع أفكار تشومسكي ونظراته عن كثير مما قال به. سيعرِّج على الأسئلة المرتبطة بموضوعات اللغة وما يتفرَّع عنها، وصولاً إلى «النحو العالمي»، إحدى نظريات تشومسكي، ولأهمية المراجعة ننشر أهم ما جاء فيها.

السياسة والعمل الأكاديمي

لا يحدث في كثير من الأحيان أن تتحصَّل على تأكيد علني لوجهات النظر التي أدْليتَ بها لسنوات؛ لكن هذا ما حدث لي عندما حضرتُ أطروحات جون ديوي (1) في العام 2013، التي قدَّمها عالم اللسانيات الأميركي نعوم تشومسكي برعاية من قسم الفلسفة في جامعة كولومبيا.

آراء قمت بالترويج لها بين مختلف الجماهير (دون نجاح ملحوظ) هي: الأكاديمية عالم قائم بذاته، البروتوكولات، نظم التقييم، الإنجازات المُعترف بها، الاتفاق على الأهداف، قائمة بأسماء الأبطال، وقائمة بالمهام التي لم يتم القيام بها. متحصَّلات العمل الأكاديمي ضمن تخوم هذا العالم، وبين هذا وذاك، المهنية لا العمومية، وكذلك المدى الذي يمكن لكل ذلك أن يتحرك فيه، على رغم أن أداء تكنولوجيا المعلومات والاتصالات قد يكون، وليس في كثير من الأحيان، مُشاعاً. وفقاً لذلك، هنالك آراء تتعلق بالعمل الأكاديمي بشكل عَرَضي فقط، وليس بشكل أساسي، وكذلك السياسة. قد ترافق السياسة تشكيلَ الوحدات الأكاديمية، واختيار أعضاء هيئة التدريس، لكن الضغوط والاهتمام السياسي - لا مكان لهما في بسط الجدل الأكاديمي، إلا باعتبارهما أشكالاً مميزة من الاهتمام. (لو لم تكن للعمل الأكاديمي أي أشكال مميزة من الاهتمام، سيكون بشعاً ولن يكون شيئاً يمكن تذكُّره). هنالك أيضاً وجهات النظر الأكاديمية للأستاذ، حيث تكون مستقلة عن وجهات النظر السياسية في عالمه/ أو عالمها الحقيقي. الجدل الأكاديمي لا يتتبَّع خلافات حزبية أو العكس؛ لا يمكنك تسبيب وجهات النظر الأكاديمية الانضباطية تبْعاً لمواقف الأستاذ/ الأستاذة، تلك التي يمكن أن يؤخذ بها في المجال العام؛ بل هي متغيِّرات مستقلة.

كما يعلم الجميع، نعوم تشومسكي، أكاديمي مرموق، وباحث يظل من بين نظرائه الحاليين، حقق بمفرده - إلى حد كبير - إعادة لتكوين انضباط اللغويات، وله حضور قوي في مشهد عدد من التخصُّصات الأخرى مثل: فلسفة العقل، علم النفس، علم الأحياء، والنقد الأدبي، على سبيل المثال لا الحصر. لكن تشومسكي أيضاً مُثقف جماهيري بارز، وكانت آراؤه واسعة الانتشار بتناولها الموضوعات السياسية - السياسة الخارجية الأميركية، الشرق الأوسط، الرأسمالية، أنواع الوقود الأحفوري، والتعليم، وغيرها من المجالات - وهي موضوعات معروفة، ومثيرة للجدل غالباً. وبالتالي التساؤل الذي يبرز: أيُّ تشومسكي (ضمن نطاق تلك المجالات التي تم حصرها) سيظهر في جامعة كولومبيا؟ وبالتعاقب، هل يمكنكم أن تحظوا بواحد من أولئك دون الآخر؟ الجواب، كما تبيَّن، هو: «نعم».

اللغة... البيئة... واللوازم

قدَّم تشومسكي ثلاث محاضرات تحت عنوان عام «أي نوع من المخلوقات نحن؟» تم تقديم الجواب في المحاضرة الأولى - «ما هي اللغة؟» - هل نحن مخلوقات مع اللغة، بوصف اللغة قدرة فريدة بيولوجية في الإنسان ظهرت فجأة وفي وقت متأخر جداً من قصة التطوُّر، قبل ربما 75 ألف سنة. ثم، ألم تنشأ اللغة من البيئة الاجتماعية/ الثقافية، على رغم أن البيئة توفر لوازمَ، تقوم بالمساهمة فيها لعمل اللغة تلك. هذه المساهمة هي نوع من «الإفقار»، لا يمكن حسابها إبداعاً في الأداء اللغوي، والتي لها مصدرها ليس في العالم التجريبي، بل في القدرة الفطرية، والتي هي أقوى من تحفيزها واستغلالها والتلاعب بها. إنها ترتبط بقضية ما إذا كنتَ ترغب في فهم اللغة، ويجب عليك ألاَّ تنظر إلى السلوك اللغوي، بل إلى الآلية الداخلية - النحو العالمي (2).

في محاضرته الثانية «ماذا يمكننا أن نفهم»؟ منشأ السؤال لدى تشومسكي ينطلق من سؤال: ما الذي يستطيع البشر فهمه؟ وجوابه، عموماً، كان: يمكننا أن نفهم ما يمكننا فهمه، وهذا يعني أننا لا نستطيع فهم ما هو أبعد من القدرات العقلية الفطرية لدينا. هذا لا يعني، كما قال، بأن ما لا يمكننا فهمه ليس حقيقياً: «ما هو غامض بالنسبة لي ليس حجة على ألاَّ وجود له». الأمر كالآتي: في الوقت الذي تكون فيه اللغة قوية وخلَّاقة، قوَّتها وإبداعها لهما حدود. وبما أن اللغة تفكير بدلاً من أن تكون إضافة «لـ» أو مظهراً خارجياً للتفكير، تُصبح حدود اللغة هي حدود ما يمكن أن نفكِّر فيه وحوله بشكل مثمر. ما لم يصرِّح به تشومسكي، هي أن تلك الحدود قابلة للتمدُّد أو التجاوز في الوقت المناسب. «لا يوجد تطوُّر في مقدرتنا على اللغة». هذه التأكيدات قُدِّمت مقابل ما يراه تشومسكي إفراطاً في التفاؤل بمذهب التنوير - وهو الأمر المشترك لدى كثير من فلاسفة التجريب - قوانا الخاصة هي «قوة تفسيرية لا حدود لها» وبذلك «نستطيع أن نفعل أي شيء». حدودنا، مختتماً، يجب ألَّا تكون متهلهلة، استيعاباَ لحقيقة حدود تتيح تصوُّراً وإسناداً لتلك الحدود. «إذا لم تكن هنالك حدود»، «كل شيء سيكون هشاً أو لا شكْل له، و «لن يكون هناك مجال «لاتخاذ إجراءات محدَّدة». (وعلينا هنا أن نفكِّر في سوناتا (3) وردزورث العظيمة «الراهبات لا يقلقن في غرفتهن الكنَسِيَة الضيقة».

قسرية الهياكل السياسية

في المحاضرة الثالثة «ما هو الصالح العام؟» تحوَّل تشومسكي من فلسفة العقل واللغة إلى الفلسفة السياسية، والسؤال عمَّا يؤسِّس حقاً للمجتمع الديمقراطي، وشبه البنى الفكرية العقائدية التي تتعارض مع تحقيق الحرية بقسرية الهياكل السياسية التي تؤدي إلى خنق استقلال الفرد المبدع وتفشل في تشجيع «التنوع الإنساني الأكثر غنى». وأكد أن أي مؤسسة تتميز بالهيمنة والتسلسل الهرمي، يجب أن ترتقي إلى مستوى التحدي المتمثل في تبرير وجودها، وإذا لم تستطع مواجهة هذا التحدي، فيجب تفكيكها.

هوامش لابد منها

1. جون ديوي، فيلسوف وعالم نفس أميركي. ولد في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 1859 وتوفي العام 1952. زعيم من زعماء الفلسفة البراغماتية. يعتبر من أوائل المؤسِّسين لها. يقال إنه هو من أطال عمر هذه الفلسفة واستطاع أن يستخدم بلياقة كلمتين قريبتين من الشعب الأميركي هما: «العلم» و «الديمقراطية».

2. تنص نظرية النحو العالمي على فطرية القدرة على تعلم القواعد النحوية للغات البشرية؛ بمعنى إمكانية تعلمها بدون تدريس وتنمو مع نمو الإنسان كما ينمو الجسد لأنها متأصِّلة في الدماغ البشري للإنسان وهذه القدرة يختص بها البشر عن بقية الحيوانات.

3. سوناتا، قالب موسيقي يحوي ثلاثة أقسام رئيسية: العرض التفاعل المرجع. يجب التفريق بين ما يُسمى قالب السوناتا، وبين السوناتا نفسها التي تعني قطعة موسيقية مكتوبة لآلة (سوناتا للبيانو المنفرد) أو آلتين (سوناتا للكمان والبيانو، سوناتا للفلوت والبيانو، سوناتا للكمان والجيتار...) من عدة حركات بالترتيب (سريع، بطيء، متوسط السرعة، سريع). الكلمة مأخوذة من الكلمة الإيطالية sonare والتي تعني إصدار الصوت من آلة موسيقية، كمقابل لكلمة cantata والتي تعني الغناء بالصوت البشري.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً