كان لانهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي تداعيات كثيرة السلبية منها والإيجابية. ومن الإيجابيات تعزيز فكرة الديمقراطية وإطلاقها في العالم كمشروع حل لا بديل عنه.
... وبدأت التجارب واختيرت بعض الدول في العالم الثالث كحقول لاختبار مفعول الديمقراطية وجدواها في كل مكان ومن دون أخذ الزمان في الاعتبار. وانتهت معظم تلك التجارب إلى الفشل في أكثر من بلاد عربية وإفريقية وآسيوية ولاتينية. ونجحت بصعوبة في بعض أمكنة توافرت فيها عقلانية سياسية أو دولة عاقلة التزمت خط الوفاق والوسط والتوفيق بين التعارضات. وهي أمور ساعدتها على تجاوز الشطط واستيعاب التطرف واحتواء التناقضات الأهلية فجرى الاختبار في سياق حسن.
أما المناطق التي فشلت فيها التجارب الديمقراطية فكانت كثيرة وفازت الدول العربية بالميدالية الذهبية، فحصدت العدد الوافر من الإحباطات بعضها نجم عن انقلاب الدولة على مجتمعها ومشروعها، وبعضها نجم عن رغبة المعارضة في الاستيلاء على كل المناحي السياسية والثقافية من دون إدراك أن التطور متدرج الخطوات والتاريخ لا يقفز دائما. في إفريقيا مثلا (وباستثناء تجربة جنوب إفريقيا التي قادها رجل تاريخي هو نيلسون مانديلا) سقطت الديمقراطية بالمظلات جوا على مجتمعات هي أشبه بمجموعات قبلية لا تعرف من «الدولة» سوى أنها كتلة بشرية بشرتها بيضاء اللون وتديرها شركات تملكها جهات أجنبية وظيفتها سرقة ثروة البلد وإفقار أهله.
في هذه الدول (الممزقة اجتماعيا) سقطت الديمقراطية عليها كالقنبلة الانشطارية مثل تلك التي استخدمها الأميركيون في حرب أفغانستان لاقتلاع أعضاء تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان» من مراكزهم في تلك الجبال الشاهقة.
... وهكذا حصل في تلك المجتمعات المسكينة والفقيرة والمستلبة. فالديمقراطية لم تسهل الأمور بل عقدتها، ولم تساعد على التطوير بل فجرت الأوضاع الداخلية، ولم تسهم في الاستقرار لتشجيع الاستثمار بل أشعلت سلسلة حروب صغيرة كادت أن تطيح بالأجزاء البسيطة من النسيج الاجتماعي. الأنظمة الديكتاتورية في إفريقيا انفتحت فجأة وأطلقت حرية الصحافة وأعطت للهيئات والجمعيات حق تأسيس الأحزاب وتمت الأمور برعاية أوروبية وتشجيع الأمم المتحدة. وكانت النتيجة قيام عشرات الأحزاب والمنظمات السياسية. وأدى الانفلاش إلى نهوض هيئات حديثة موزعة على عشرات المناطق والزوايا القديمة. وبات لكل عشيرة حزبها ولكل منطقة حزبها ولكل قبيلة حزبها، وخاضت تلك الجهات السياسية معاركها الانتخابية بأسلوب غير سياسي ممطية القديم للعبور إلى الجديد.
... وتواصل التفكك الأهلي وواصل انهياره إلى درجة دفعت هذه المسألة الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتران إلى القول: إذا كانت هذه الديمقراطية في إفريقيا وهذا هو مفهومها لابد أن نبحث عن صيغة أفضل وطريقة مختلفة. القصد من كلام الرئيس ميتران ليس رفض الديمقراطية بل القول إن الفكرة حضارية في أساسها وليست قبلية وانها خطوة توفيقية توحد الانقسامات ولا تزيدها.
حين انتقد ميتران تلك «الديمقراطية الإفريقية» واحتج: «هذه ليست ديمقراطية» قصد نقد المجتمع وليس الديمقراطية. فأساس الديمقراطية هو المجتمع وليس العكس. فالمجتمع هو من يؤسس هيئاته ثم يأتي دور الهيئات لإعادة التأسيس. والتأسيس الأول هو الأصعب لأنه يحاول أن يحفر في المجتمع العنصر الجديد في وقت يمانع القديم أو على الأقل يناور لاحتواء العناصر الطارئة وإعادة إدخالها في سياق ثقافته.
الممانعة ظاهرة صحية تكشف عن صلابة المجتمع وثقة أهله بأنفسهم. كذلك طلب العلم والجديد هو ضرورة تاريخية وسُنة من سنن الحياة والتطور. فعلى رأس كل مئة سنة لابد أن يأتي من يجدد ويعطي الحياة وقودها لتبدأ دورتها بقوة أسرع وأفضل من السابق.
ميتران لاحظ «المشهد الإفريقي» وانفعل برأيه. فهو اندهش عندما وجد أن الديمقراطية في القارة السمراء (باستثناء دولة نيلسون مانديلا) تسير عكس التاريخ أو تثير المشكلات القديمة بأسلوب حداثي. ميتران قال ذلك، إلا أنه لم يقل إن المشكلات سببها الديمقراطية. وظيفة الديمقراطية أصلا حل المشكلات الموروثة بأسلوب حضاري متقدم وهي من أدوات الحل وليست حلا بحد ذاتها. الحل هو في قبضة الجماعات الأهلية، أما الديمقراطية فهي وسيلة تستوعب الخلافات وتهذبها وتدرجها أو تضبطها تحت قبة البرلمان.
وغير ذلك الأسلوب نعود إلى الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي الذي تفكك وتشرذم قبل أكثر من عقد
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 13 - الأربعاء 18 سبتمبر 2002م الموافق 11 رجب 1423هـ