العدد 5154 - الأحد 16 أكتوبر 2016م الموافق 15 محرم 1438هـ

بين الرواية والشعر... جدل آخر

المنامة - عبدالله زهير 

تحديث: 12 مايو 2017

منذ أن نشر الناقد العراقي محسن جاسم الموسوي كتابه اللافت «عصر الرواية، مقال في النوع الأدبي» (منشورات مكتبة التحرير، بغداد-1985)، والجدل محتدمٌ حول أيهما يساوق نبض هذا العصر المتغيّر: الشعر أم الرواية؟ البعض لم يكتفِ بطرح الإشكالية تلك على بساط البحث، وإنما تعدّى ذلك بمراحل، حيث يصل به الشطط في نهاية المطاف إلى نعيٍ للشعر ودوره في ثقافتنا المعاصرة. لماذا لا نسمع هذا النعي باللغة الجازمة نفسها لدى الأوروبيين مثلاً؟

نحن هنا لسنا في مقام الدفاع عن قيمة الشعر، إذ الشعر متجوهر في الأجناس الأدبية والفنية بمختلف تجلياتها وأشكالها، بما فيها الرواية. المسألة ليستْ مغالبةً، أو انتصاراً لشكل كتابيٍّ على شكلٍ آخر (لنكن متيقظين في نقاشاتنا؛ لكيلا نقع فريسة اللغة الانتصارية التي تستبطن النزعات الإقصائية واليقينية الزائفة). المسألة خاضعة قبل كلّ شيء للشروط الأدبية والثقافية الناضجة.

ثم لو عُدنا قليلاً إلى الوراء، سنجد أن فكرة «غلبة الرواية» في الوطن العربي توسعتْ على يد الناقد جابر عصفور في كتابه «زمن الرواية» الصادر سنة 1999، وربما تحوّلتْ إلى «نظرية أدبية» يجري التسويق لها بين الحين والآخر. وبعد ذلك، ربما أصبحتْ هذه النظرية المتناغمة مع الأطر العصرية المتسمة بالتغير والتطور المتسارعَين تكنولوجياً وبصريًّا. الشعر لم يستثمرْ هذا التطور الملحوظ. إنه لم يتمازجْ - وخاصة عندنا بحسب ما أظن - مع الفنون البصرية الحديثة متسارعة النمو كالتصوير الفوتوغرافي وصناعة الأفلام وفن الكمبيوتر على سبيل المثال لا الحصر. بينما الرواية والمسرحية فَعلا ذلك وأكثر. قلّما تصدر رواية أو مسرحية لافتة لا تحظى بمزيد من المعالجات السينمائية والتلفزيونية. هنالك أمثلة عديدة في الآداب الأخرى بوجه عام وفي أدبنا العربي بوجه خاص، وهي أكبر من أن نحصيَها. الأمر يحتاج إلى ببليوجرافيا (قائمة بعناوين كتب) خاصة تحت مسمّى «الأعمال المتحولة». وهو عمل لا يقدر على إنجازه بصورته المُثلى فرد واحد، بل تقوم بأعبائه مجموعة مهتمة، حتى وإن جاءت تحت مظلة مؤسسة داعمة.

هذه الأعمال تملأ العالم، من ناحيتي الكم والكَيْف. روايات ومسرحيات الأدب الروسي مُثلتْ في السينما والمسرح بمختلف اللغات. مسرحيات شكسبير ما تزال تُغري الكثير من المخرجين والسينمائيين حتى هذه اللحظة. الكثير من الروايات العربية (خذ مثلاً: روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغسان كنفاني وإحسان عبدالقدوس وجمال الغيطاني وسواهم) تحوّلت إلى أفلام سينمائية أو أعمال تلفزيونية. أعرف أن المسرحيات كُتبتْ لكي تُمثّل على خشبات المسارح. عندي شبهُ يقينٍ أن سعد الله ونوس مثلاً كان يكتب مسرحياته، ليجدها بعد ذلك مجسّدةً على الخشبة أو على الشاشة. لكنْ ثمة فروق هائلة -في الأعم الأغلب - في طريقة المعالجة الفنية بين العمل بصفته مكتوباً على صفحات الورق وبين العمل بصفته مُمثَّلاً على الخشبة أو في استوديوهات السينما والتلفزيون. الشخصيات ليستْ على الشاكلة نفسها في كلا المكانين، والرؤية ليست نفسها. إلى أي مدىً ينجح أو يخفق ذلك؟ تلك مسألة أخرى.

ما يهم هو ذلك التهجين الذي حصل بين العمل مكتوباً وبين العمل مشبوكاً بالصورة التي هي أساس الثقافة البصرية والمُعوَّل الأول داخل أنساغ فنونها. الرواية والمسرحية استفادتا من المعطيات الهائلة للفنون البصرية بشتى أشكالها وتجلياتها. مؤلفو الرواية والمسرحية انفتحوا على الجماليات المخبوءة تحت حاستيْ السمع والبصر. أي أنهم تأثرّوا وأثرَوا بهذه الفضاءات التي تمنح المخيّلة والذائقة ما يطوّرهما ويحرّرهما، شريطة التعامل معها بجرأة وانفتاح.

السؤال: ماذا فعل مؤلفو الشعر ضمن هذا النطاق؟ هل الشعر في ذاته لم يستطعْ مجاراة الرواية في المتح من تلك الفنون، تأثُّراً وتأثيراً؟ أهو قصورٌ في الشعر أم تقصيرٌ في الشعراء؟ ثمة نتاج شعريّ متواصل وغزير، لكنه يبقى حبيس الورق والصفحات الإلكترونية، ولربّما أغلبه لم يستثمرْ الطاقات التعبيرية البصرية والسمعية المبثوثة في كلّ مكان، وحتى النقد أعرض عنه وهجره، ناهيك عن هجران قراءته من قبل المثقفين وغير المثقفين. نلمح محاولاتٍ هنا وهناك لتمزيج هذه الفنون مع الشعر. هل لنا أن نتذكّر في هذا المجال مثلاً معرض «وجوه»؟ ذلك العمل المشترك العام 1997 بين قاسم حداد وإبراهيم أبو سعد وخالد الشيخ، إذْ شَكَّل الثلاثيُّ حدثاً فنياً بارزاً تفاعلتْ في أنساقه: الموسيقى والفن التشكيلي وقراءة الشعر بصوت أدونيس المرخَّم والمُبهر. أعجبتنا التجربة أم لم تعجبنا، فهي محاولة متفردة تستحق النظر والاستفادة والاهتمام.

بالطبع هناك توظيفات وتجارب أتتْ قبلها أو بعدها. فرقة «الثلاثيّ جبران» وتوظيفها الموسيقى في جدارية محمود درويش تجربة حديثة العهد ليست ببعيدة أيضاً. فكرة تشكيل الشاعر أدونيس لديوانه «الكتاب» مستقاة من فيلم سينمائي ياباني في تقسيم الصفحة إلى أربعة أقسام: اليمين افترضه ذاكرةً متخيّلةً للمتنبي، الأعلى قائم على استلهام تجربته، الأسفل إشراقة أو لمعة حرة، والهامش الأيسر لمن يريد يتوسع ويقرأ أكثر. وهكذا كان هذا الفيلمُ الشرارةَ التي انقدحت منها قصة اكتشافه للشكل الذي ينبغي أن يُبنى على أساسه ذلك الإنجاز الهائل التأثير. بمعنى من المعاني، إنه شاهدٌ واضحٌ على مفاعيل الأخذ والعطاء بين الشعر وسواه من الفنون.

من وجهة نظري، إلقاء الشعر في الأمسيات بحدِّ ذاته يُعدُّ محاولةً لمَسْرَحة القصيدة. السُّلَّمُ الصوتيُّ ولغةُ الجسد جزءان مُهمّان في الاشتغال على تحريك مشهدية هذه «المَسْرَحة»، بخاصة في القصائد الملحمية المتعددة الأصوات. كثيرون تمنعهم سماتهم الشخصية من الإلقاء الجيّد. قلائل مِنَ الشعراء ينجحون في ذلك، صوتياً وجسدياً. الشاعران محمود درويش ومحمد الفيتوري مثالان بارزان، إذ طالما أتقنا عملية «التحويل المسرحيّ» لأشعارهما. غني عن القول أنّ الإلقاءَ بوصفه تجسيداً للقصيدة فنٌّ آخر قائم بذاته. لا يُطالب الشاعر بأكثر من إتقان تجربته في الكتابة وتطويرها، وإذا صادف أنْ جمع بين الإلقاء المُتقَن والكتابة العالية الجودة، فهو لا يركب إلا درجةً من درجات مماهاة الفنون البصرية والسمعية. ولئلا نضعَ حدوداً، فهناك مساحاتٌ أبعدُ بكثير يمكن الذهاب إليها. نظرية «انمحاء الحدود بين الأجناس» أو «الأجناس المتشابكة» واحدة من الأفكار الخلاّقة التي تترك الأبواب مفتوحة للتلاقح الإبداعي أكثر وأكثر بين الآداب والفنون على تنوعها وتعددها.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً