بفوز المغنِّي وكاتب الأغنيات الأميركي بوب ديلان بجائزة نوبل في الأدب للعام 2016، تضع الجائزة نفسها مُجدّداً وسط دوَّامة اللغط الذي لم تنجُ منه لسنوات. هناك من قدَّم مقاربات وتشكيكاً وتهكُّماً في الوقت نفسه، فيما يتعلق بالفئة الأدبية. بالتهكُّم الذي ننحاز إليه هنا كي نكون في الجانب الأسْلم ربما!: «ثمة جائزة أدبية بنكهة سياسية، وأحياناً سياسية بنكهة أدبية». هل السياسة بمنأى عن جائزة باتت دول العالم تتطلَّع إليها؟ عربياً، لم تعد الجائزة تعني كثيرين ممن يرون أنهم يستحقونها، ليس تواضعاً بل يأساً من ضبط المعايير. هل ثمة معايير منضبطة في هذا الشأن؟ 18 من البشر هم الذين يحدِّدون من يستحقها، هم أعضاء لجنة الجائزة. البشر لا يخلون من الأهواء في نهاية المطاف، ولن تتواضع الملائكة كي تكون في لجنة تحكيم كلام... كتابة بشرية. لن يُعجب الملائكة كلام... كتابة البشر، ولن يجدوا دهشة فيه، فلا غنى عن البشر الذين يحكِّمون كلامَ... كتابةَ أشباههم من البشر، ولا نجاة دائمة في ذلك!
ديلان الذي باع أكثر من 100 مليون أسطوانة في جميع أنحاء العالم, وجعلت منه واحداً من الفنانين الأكثر مبيعاً في أي وقت مضى، ووُظِّفت بعض أغانية كنشيد لحركة الحقوق المدنية للأفارقة الأميركيين، والحركة المناهضة لحرب فيتنام، صار جنباً إلى جنب مع مواطنته الروائية توني موريسون التي فازت بالجائزة العام 1993، ومن قبلها بسنوات الروائي الكولومبي، رائد الواقعية السحرية غابرييل غارسيا ماركيز، وتحديداً في العام 1982، وغيره من الكتَّاب. فقط اسم واحد ظل قريباً من حيث إثارته لكمِّ الدهشة والاستغراب الذي ساد بعض الأوساط الأدبية وحتى الأكاديمية في العالم ساعة إعلان لجنة نوبل فوزه بالجائزة. إنه الإيطالي داريو فو الذي فاز بها في العام 1997. ومن المصادفة أنه في اليوم نفسه (الخميس) 13 أكتوبر، أعلنت وفاة داريو عن عمر ناهز 90 عاماً، بعد أن قضى في مستشفى ساكو ميلانو 12 يوماً جرَّاء معاناته من مشكلات في الرئة.
ثمة كثير من المفاجأة، والدهشة، والتهكُّم، والتبرُّم، والصدمة، وقليل من الرضا!
«المُولد والحمُّص»
مواقع التواصل الاجتماعي ضجَّت بالكثير من التعليقات المُتهكِّمة، وتلك التي أثنتْ على الاختيار. بين التهكُّم والثناء ضاعت أحقية أسماء كبيرة ظلَّت على قائمة الترشُّح لسنوات. ربما لعقد أو يزيد على ذلك. هذه المرَّة خلا الترشيح من اسم كاتب فاعل ومحوري في عالم الرواية أو القصة القصيرة أو الشعر، اليوم، وخصوصاً في بلدان أميركا اللاتينية. لا بأس، فقط تذكير بما تم نشره في «الوسط» نقلاً عن صحيفة «الغارديان» يوم الخميس (6 أكتوبر/ تشرين الأول 2016)، استناداً إلى قوائم بعض شركات المُراهَنات، ومن بينها لادبروكس، التي رأت أن الجائزة ستذهب - في مؤشرات كبيرة وضمن قائمة تضمُّ أربعة مرشحين - إلى الروائي الياباني هاروكي موراكامي لما يتمتع به من شعبية كبيرة، ويأتي بعده منافس آخر منتظم: الشاعر السوري أدونيس، الذي يتربَّع على القائمة ضمن ستة مرشحين، مع الروائي الأميركي فيليب روث؛ على رغم تقاعده مؤخراً عن كتابة الرواية، إلا أنه واحد من بين سبعة مرشحين.
لم يكن بوب ديلان في القائمة الأولى التي تضم 4 أسماء، ولا تلك التي تضم الستة أو الستة عشر اسماً، على رغم أن الشركة وفي دورات ثلاث نجحت مراهناتها في وصول أسماء لم يكن أحد يتوقع وصولها إلى الجائزة، من بينها الكاتبة والصحافية البروسية سفيتلانا أليكسيفيتش، التي ظل يُنظر إلى نتاجها باعتباره تحقيقات أو استطلاعات صحافية أكثر من كونه يمثل عملاً روائياً أو سيرة ذاتية، بحيث يمكن اعتبارهما في نطاق جدِّيةَ وصرامة الأدب الذي يقود صاحبه إلى أكبر وأشهر جائزة أدبية في تاريخ العالم. لكن ما أثار الدهشة أن واحداً من أغزر الكتَّاب الأميركيين: جويس كارول أوتس، الذي حل في المرتبة الخامسة على قائمة لادبروكس، هو الآخر «خرج من المُولد بلا حمُّص»! أدونيس الذي كان أوفر حظاً هذا العام، يقودنا «إلى النكهة السياسية» التي تصبغ الجائزة بين حين وآخر، فموقف الرجل مما يحدث في سورية، والذي رآه كثيرون بأنه موقف مضطرب أو لنقُل «غائم»، وسط قيامة الشرق الأوسط، قد يكون سبباً دفع المُحكِّمين إلى النأي بالجائزة عن سورية، وخصوصاً مع مأساة تدفُّق اللاجئين إلى كل منافذ القارة الأوروبية.
أسماء مثل الكاتب الكيني نجوجي واثينغو، والروائي الألباني إسماعيل كاداريه، والإسباني خافيير مارياس، والأيرلندي جون بانفيل، والبرتغالي أنطونيو لوبو أنتونيس، والنرويجي جون فوس، والشاعر الكوري كو اون، والروائي المجري لازلو كرازناهوراكي والأرجنتيني سيزار آيرا، والذين كانوا ضمن احتمالات متقدِّمة في التصنيف الذي ضم عشرين اسماً، خرجوا هم أيضاً «من المولد بلا حمُّص».
رشدي: الوريث الرائع!
لكن اسماً واحداً، وأحد المرشَّحين شبه الدائمين للجائزة، كان أكثر انحيازاً وسط اللغط والاستغراب، وتشكيك بعض الكتَّاب في استحقاقه الجائزة، رأى أنه يستحقها بجدارة، ذلك هو الروائي البريطاني من أصل هندي، سلمان رشيدي، الذي حيّا الاختيار بقوله: «إن الشعر والأغنية كانا دائماً على ارتباط، وأن ديلان وريث رائع لهما».
أما في الوسط الفني نفسه، فقد برزت صديقة ديلان المغنية جوان باييز، والتي رأت أن جائزة نوبل تعدُّ خطوة أخرى نحو خلوده، بحسب ما نشره موقع «بي بي سي» يوم الجمعة (14 أكتوبر)، وهي من أوائل الذين شجَّعوه في مسيرته الفنية في ستينيات القرن الماضي، إضافة إلى ارتباطها بعلاقة عاطفية معه، مشيرة إلى أن «موهبته مع الكلمات أمر لا يمكن تجاوزه».
وكتبت باييز في صفحتها على «فيسبوك» «من خبرتي الفنية الممتدة يمكنني القول، إنه لا توجد (أغاني) أكثر حيوية وقيمة في عمقها وتشاؤمها وغضبها وغموضها وجمالها ومرحها أكثر من أغاني بوب، لن يأتي أحد مثله».
وضمن الوسط الفني نفسه، أعرب المغني البريطاني مارك نوبلر في صفحته على «فيسبوك» عن سعادته لحصول ديلان على الجائزة، موضحاً أن «بوب ديلان كاتب عظيم للأغاني (...)، ولم يحُلْ شيء دون مواصلته الكتابة وتقديم موهبته للعالم».
أما الكاتب البريطاني فيليب بولمان، فقد منح نفسه مساحة من المبالغة في الاحتفاء بفوز ديلان بالجائزة؛ حيث وصف الاختيار على صفحته على «تويتر» بالقول: «اختيار عظيم لجائزة نوبل، ونتيجة لذلك يمكن فتح الجائزة لهذا النوع من الأدب»!
فيما لم يتجاوز الرئيس الأميركي باراك أوباما مساحة المبالغة تلك في تغريدة على صفحته
بـ«تويتر»؛ حيث كتب «تهنئتي لواحد من أفضل الشعراء، بوب ديلان يستحق نوبل»!
الأدب الثانوي!
التصريحات المصاحبة لإعلان الجائزة، والتقرير الذي تلتْه الباحثة الأدبية وسكرتيرة مؤسسة نوبل سارة دانيوس، أشار إلى أن ألبومات ديلان تتركَّز حول موضوعات من قبِيل الظروف الاجتماعية للإنسان، والدِّين، والسياسة والحب». وأضافت اللجنة - دفعاً للانتقادات التي كانت تتوقعها، وأساسها أن ديلان يظل مُغنيّاً أكثر منه شاعراً، ولن يكون بتلك الأهمية التي ترشِّحه للفوز بالجائزة - أن كلمات أغنياته تم نشرها بشكلٍ دائم في إصدارات جديدة، مُنوهِّة إلى نشره أعمالاً تجريبية مثل «تارانتولا» في العام 1971، ومجموعة الكتابات والرسوم التي صدرت في 1973؛ علاوة على سيرة ذاتية حملت عنوان «مُذكِّرات» في العام 2004، وذلك ما حمله تصريح الجائزة الذي ذكر بأن ديلان كفنان، يُعتبر مُتنوِّعاً بشكل مذهل؛ حيث كان نشطاً كرسَّام، وممثل وكاتب سيناريو. «ديلان له مرتبة الرمز. تأثيره على الموسيقى المعاصرة نافذ، وهو موضوع تيار مستمر من الأدب الثانوي».
هل قال التصريح «الأدب الثانوي»؟ هل منح جائزة بتلك العراقة والأهمية إلى «أدب ثانوي» قد يكرِّسه مستقبلاً ليكون بمستوى الأعمال الروائية الكبرى، أو القصص القصيرة المذهلة، أو النصوص الشعرية التي مازال العالم يُقبل عليها وإن بدرجة أقل بكثير من أعمال الخيال؟
وبمناسبة الأدب الثانوي، لن يكون تهكُّماً فيما لو تحوَّلت الجائزة مع مرور الوقت إلى برنامج جماهيري يعتمد على تصويت الجمهور لاختيار أفضل شاعر، وبجوائز ضخمة، تذهب إلى أحدهم بناء على ذلك التصويت! مثل هذه الخيارات، واعتبار كتابة كلمات الأغاني، أساساً في حُزمة الأجناس الأدبية التي تُمنح بموجبها الجائزة لن يجعل ممارسة الاختيارات تلك في يوم من الأيام ضرباً أو مُسبِّباً للصدمة أو الدهشة! ولا نتحدَّث هنا عن العامل المتكرر في تدخلاته بمنح الجائزة، وهو العامل السياسي.
بن سيساريو، ألكسندرا آلتر وسيويل شان، من صحيفة «نيويورك تايمز»، وتقرير مشترك هو أقرب إلى الإضاءة حول ديلان نشر يوم إعلان فوزه بالجائزة يوم الخميس الماضي، نُورد أهم ما جاء فيه، مع هوامش لابد منها.
عدم الانسجام مع التقليد
حصل المغني وكاتب الأغاني بوب ديلان، وأحد الموسيقيين الأكثر تأثيراً في العالم، على جائزة نوبل في الأدب يوم الخميس (13 أكتوبر 2016) لأنه «خلق تعبيرات شعرية جديدة ضمن تقاليد الغناء الأميركية» بحسب قول الأكاديمية السويدية، وهو أول أميركي يفوز بالجائزة منذ أن حصلت عليها الروائية توني موريسون في العام 1993. الإعلان، في ستوكهولم، كان مفاجأة: على رغم أن ديلان (75 عاماً) من بين الأسماء المُتداولة على قوائم المترشِّحين للجائزة، إلا أن عمله لا ينسجم مع التقليد الذي حافظت عليه الجائزة بمنحها للأعمال الروائية والشعر والقصص القصيرة.
وبالنسبة إلى الذين يدافعون عن ديلان للحصول على الجائزة، قالوا: «إن غنائيته رائعة. اهتماماته وموضوعاته تظل واضحة وخالدة. وقلَّة من الشعراء في أي عصر، شهدوا بروز مزيد من التأثير لأعمالهم».
الباحثة الأدبية والسكرتيرة الدائمة لأعضاء الأكاديمية السويدية الـ 18، سارة دانيوس، قالت، إن اللجنة اختارت ديلان لأنه «شاعر عظيم ضمن التقليد الشعري للناطقين بالإنجليزية»، وقارنته بشعراء كبار من أمثال هوميروس وسافو، حيث يمتاز عمله بالتسليم للشفوية، مشيرة إلى أن الشعراء أولئك «كتبوا نصوصاً كان مقدراً أن يُستمع إليها وأن تؤدّى، وهو الأمر نفسه مع ديلان».
ورداً على سؤال عمَّا إذا كان قرار منح الجائزة للموسيقي، سيعمل على توسيع تعريف المؤسسة للأدب، ردت دانيوس مازحة بالقول: «الأوقات تتغير، ربما» في إحالة إلى واحدة من أغاني ديلان.
وطالبت دانيوس الذين لم يقفوا على المسيرة الموسيقية لديلان أن يبدءوا الاستماع إلى ألبومه «بلوند أون بلوند»، والذي صدر في العام 1966، وأغاني مثل «فيجنز أوف جوانا».
الذهاب في التجريب
وقالت للصحافيين، إنه عمل على تجريب كل التقاليد العظيمة من الأغنية الشعبية الأميركية إلى موسيقى «الدلتا بلوز» (موسيقى الكآبة والشجن)، وصولاً إلى الحداثة الفرنسية، بأسلوب أصلي للغاية.
ونوَّهت دانيوس إلى أن ديلان يُعدُّ مثالاً غير عادي على طريقته العبقرية في النظم، وطريقته الصورية في التفكير. وتعترف أنها عندما كانت صغيرة لم تكن حقاً من معجبي ديلان، وكانت تفضّل أعمال ديفيد باوي. مضيفة «أعتقد أن المسألة مسألة أجيال - اليوم أنا من محبِّي بوب ديلان».
برز ديلان في المشهد الموسيقي بنيويورك العام 1961 كفنان حين التقى بنجمه المفضل وقتها المغني وودي غوثري، الذي عُرف بدفاعه عن الطبقات العاملة والمضطهدين، منطلقاً من أغاني الاحتجاجات والعزف على الغيتار في النوادي والمقاهي في قرية غرينويتش.
ومنذ البداية، تصدَّى ديلان لكتابة الكلمات الغنائية الباهرة بأسلوب غير مباشر جعلت منه مصدراً للسحر لعدد من الفنانين والنقاد.
في غضون سنوات قليلة، استطاع ديلان تفنيد الفكرة الجاهزة حول الموسيقى الشعبية، مع أدائه وإصداره أغنيات أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، باتجاه «الروك أند رول»، بعناصرها وأنماط العزف الموسيقي مثل: البلوز وبوغي ووغي, الجاز، (الريثم وبلوز). وبعد تقارير عن تعرُّضه لحادث اثناء ركوبه الدراجة النارية في العام 1966 بالقرب من منزله في وودستوك، بمدينة نيويورك، انسحب ديلان من الحياة العامة، ولكنه ظل حاضراً بشكل مكثف بوصفه شاعراً وملحناً، ليواصل مسيرته ليدهش معجبيه والنقاد؛ ما قاده ليكون واحداً من أكثر الأسماء غزارة في تاريخ موسيقى البوب.