العدد 12 - الثلثاء 17 سبتمبر 2002م الموافق 10 رجب 1423هـ

مواقف بوش صبت الزيت على نار الاعلام

ملاحظات عن العلاقات المصرية الأميركية

محمود التهامي comments [at] alwasatnews.com

.

تدور العلاقات المصرية الاميركية في دائرتين منفصلتين عن بعضهما انفصالا يثير الاستغراب، والمفترض ان يكون بينهما اتصال عضوي بحيث تؤثر احداهما في الاخرى وتتأثر بها سلبا وايجابا، ولكن الواقع ان كلا منهما يدور في فلك خاص به يسمح بمرور التأثير السلبي ولا يلتقط التأثير الايجابي ولذلك اصبح يصادف الحقيقة قول القائل إن العلاقات المصرية الاميركية تمر بأزمة، كما ان الزعم بأنها علاقة استراتيجية قوية هو الآخر زعم صحيح.

ولا يدخل هذا التناقض في باب عوامل التجاذب والتنافر والتضاغط الذي تتعرض له العلاقات بين الدول عادة لأن الشد والجذب والمد والجزر شيء طبيعي لا يختلف معه في كل الاحوال اساس العلاقات فهي إما علاقات صداقة قد ترقى إلى التحالف، أو علاقات تباعد قد تصل إلى العداء، وقد تكون علاقة باردة محايدة لا صداقة فيها ولا عداء ويحرص الجانبان فيها على ان تظل بعيدة عن عوامل التسخين بالحرص على عدم تناقض المصالح.

ويندرج ذلك الانفصال تحت مفهوم «الشيزوفرينيا» أو ما نطلق عليه مرض انفصام الشخصية حيث تتوارى شخصية أو اكثر وراء شخصية أخرى أو أكثر، والاغلب ان تكون احداهما طيبة وديعة ومسالمة بينما الاخرى شريرة شرسة وعدوانية، وتتناوب تلك الشخصيات الظهور على مسرح الحوادث بطريقة تثير الارتباط وتحير المعايشين والمراقبين على حد سواء.

وحتى لا نستطرد في حديث الالغاز والامثال، فإن الانفصال واقع بين الدائرة الرسمية والدائرة الاعلامية على الجانبين المصري والاميركي، ربما كانت هناك اختلافات طفيفة ترجع إلى طبيعة التركيبة السياسية والاعلامية في كل من البلدين إلا انه في النهاية نجد اداء الدائرة الرسمية مختلف اختلافا بينا عن الدائرة الاعلامية نصا وروحا وليس من قبيل الاختلاف الوظيفي.

وأما الدائرة الرسمية التي يلعب على مسرحها السياسيون والدبلوماسيون فهي محكومة بالاعراف والقواعد، والكلام فيها يكون عادة محسوبا بأدق المكاييل والمقاييس، والتجاوز على هذا المسرح محدد للغاية، فبينما تؤكد الادارة الاميركية عمق العلاقات الاستراتيجية مع مصر، تؤكد الادارة المصرية هي الاخرى ان العلاقات مع الولايات المتحدة ازلية وغير قابلة للتدهور، وبينما يصف الدبلوماسيون الاميركيون الخلاف على بعض القضايا بأنه لا يتطرق إلى جوهر العلاقات، فإن المصريين يرددون ان الخلاف لا يفسد للود قضية مما يعطي انطباعا بأن الامور بين الادارتين تجري كنهرين من السمن والعسل فيهما لذة للآكلين وللشاربين.

ولكن الأمر الواقع يفرض نفسه على النظرية ويؤكد ان هناك ازمة صامتة في العلاقات المصرية الاميركية على رغم الكلام الدبلوماسي والسياسي ما يعني ان المسألة في ناحية معينة أو ربما عدة نواح قد تجاوزت قدرة السياسيين على الابتلاع والتجاوز، وربما كان الامر متعلقا بمطلوبات من هذا الجانب او ذاك لا يستطيع تلبيتها، فوقفت في الحلق كالغصة لا هي ترجع ولا هي تنزلق إلى الداخل ونتوه في آلة هضم الحوادث.

واللافت للنظر ان الازمة في مراحلها الاخيرة قد تجاوزت مرحلة الصمت، وخرجت من دهاليز الغرف المغلقة التي تعشق السياسة الاميركية العمل فيها الى الدائرة الاعلامية التي تختلف طبيعتها في كلا الجانبين والتي تعمل وفق آليات تختلف عن آليات العمل السياسي والدبلوماسي وتتأثر بالثقة المحلية واتجاهات الرأي العام والموروث الثقافي والتاريخي وغيرها من المؤثرات.

ويعتبر تصريح الرئيس الاميركي بوش بشأن ايقاف المساعدات الاضافية لمصر اهم مؤشر صدر عن إدارته يشير الى افلات الموضوع من الحواجز الدبلوماسية وخروجه من الغرف المغلقة وتعليل ذلك بمسئولية الحكومة المصرية عن حكم قضائي صدر ضد الدكتور سعدالدين ابراهيم الناشط في مجال حقوق الإنسان مزدوج الجنسية - مصرية وأميركية والمتزوج من سيدة اميركية ويقضي الحكم القابل للنقض بسجنه سبع سنوات.

وبالطبع كان موقف الرئيس بوش من هذا الموضوع بمثابة صب الزيت على النار في الآلة الاعلامية المصرية التي هي في الاصل مستاءة من السياسة الاميركية ولكن لاسباب اخرى لا تتعلق بقضية سعدالدين ابراهيم من قريب أو بعيد، وهكذا بدأت الامور تأخذ منحى خطرا بدفع الموقف الى مواجهة لا لزوم لها على الاطلاق.

ويذكر ان الدائرة الاعلامية في مصر ترفض السياسة الاميركية المنحازة لاسرائيل وتعتبر الدعم الذي تقدمه لاسرائيل بمثابة عدوان على مصالح الامة العربية، وتضم الدائرة الاعلامية في مصر الكتاب والصحافيين والمثقفين وسائر العاملين في اجهزة الاعلام والمؤرخين واساتذة الجامعات وغيرهم. فهي دائرة شديدة الاتساع تتميز بحس قومي على اعلى المستويات وتعتبر ان العدوان على الشعب الفلسطيني جريمة وان مساندة اسرائيل جريمة لا تغتفر، ومن هذه النقطة وليس من غيرها تبلورت الاتجاهات المعاكسة للسياسة الاميركية في الاعلام المصري عموما.

وطبعا فإن اسرائيل لم تضيع الفرصة وحرصت على جمع انتقادات وسائل الاعلام المصرية للسياسة الاميركية وتضخيمها وطرحها في السوق الاميركية بطريقة تناسب اغراضها، وبالطبع فليس اهم من ابراز تناقض المصالح المصرية مع المصالح الاميركية.

ولست أميل إلى تحميل اسرائيل المسئولية عن الارتباك الواقع في العلاقات المصرية الاميركية ولكن لها يدا في الموضوع في اعتبار ان سياستها اساسا موضع خلاف فيما يخص الفلسطينيين وثانيا لأن لها مصلحة في الاستقطاب الكامل للسياسة الاميركية والحيلولة دون نفوذ اي تأثير عربي او مصري إلى الساحة الاميركية.

واذا استعرضنا الحوادث على مدى العشرين سنة الماضية فإننا لا نلحظ اية مشكلة حقيقية على صعيد العلاقات المصرية الاميركية على كل المستويات السياسية او الاقتصادية او في مجال التعاون العسكري كالتدريبات المشتركة وغيرها بل ان السياسة الاميركية ساندت السياسة المصرية في المؤسسات المالية الدولية في الاوقات الحرجة. كما استقبلت مصر الرئيس الاميركي السابق مرات عدة اثناء محاولاته حل اللغز الاسرائيلي، ربما كانت هناك مشكلات، ولكنها لم تتجاوز ابواب الغرف المغلقة ومن ثم بقيت رهن إرادة السياسيين وتحت سيطرتهم، وبقيت دائرة الاعلام مشتغلة بعواملها الذاتية لم تؤثر على مسار العلاقات الرسمية. ورضى الطرفان على مضض بالتفسير القائل بحرية وسائل الاعلام في التعبير عن الرأي العام من دون تدخل من الاجهزة الرسمية.

السؤال بعد هذا العرض لعناصر الموقف هو: ماذا طرأ على الساحة ليسبب الازمة الحالية التي اعلن الرئيس الاميركي وجودها على غير ما اعتدنا من الادارة؟

والاجابة عن السؤال تنحصر في احتمالين، الاول ضعيف فهو ان تكون الادارة الاميركية قد يئست من مساندة مصر لخططها الرامية إلى غزو العراق في اطار برنامجها لمحاربة الارهاب وبالطبع فإن موقف مصر الرافض لغزو العراق يشجع دولا اخرى على المضي قدما في تحدي إرادة الولايات المتحدة وبالتالي رفض سياستها تجاه العراق وفي غمرة هذا اليأس اتجهت الادارة إلى الخلط بين الدائرتين السياسية والاعلامية لتعلن بشكل غير تقليدي بوادر ازمة في العلاقات مع مصر.

واستبعاد هذا الاحتمال يستند إلى اساس ان معظم حلفاء اميركا يخالفونها في الرأي عن مسائل كثيرة ومن اهمها مسألة غزو العراق ولم يلحظ تدهور العلاقات لهذا السبب بين الولايات المتحدة وبين المانيا أو فرنسا. على سبيل المثال، مع وضعنا في الاعتبار الاختلاف في طبيعة التغطية الاعلامية في اوروبا عنها في مصر اذ توصف التغطية في مصر بالسخونة والعاطفية.

والاحتمال الثاني فهو ان نأخذ بجدية ما قاله الرئيس بوش عن قضية سعدالدين ابرهيم ونستشعر مدى اهميتها بالنسبة إلى الإدارة الاميركية وهل يستحق هذا الموضوع ان يثير الارتباك في العلاقات بين مصر والولايات المتحدة لعدة سنوات مقبلة؟

وللاجابة نواجه امتحانا عسيرا في كيفية التمييز بين الاجندة الخاصة لبعض الاشخاص أو المؤسسات داخل الدولة والأجندة العامة للدولة، ويسري ذلك على كل الدول بما فيها مصر والولايات المتحدة، وبعبارة اخرى يمكن القول ان المشكلات تتفاقم حين تختلط الاجندات بفعل فاعل سواء بحسن نية أو بسوء نية لتفسد علاقات جرى بناؤها على مدى سنين طويلة وبجهد جهيد.

وخلط الاجندة العامة بالخاصة هو الذي صور قضية سعدالدين ابراهيم في مصر على انها قضية امن قومي ودفع بها إلى اروقة القضاء المستقل الذي يصعب فرض اي نوع من المساومات عليه وهذا الخلط في الاجندات هو الذي دفع بالقضية لتصبح مصلحة اميركية عليا تفرض نفسها على علاقة دولتين كالولايات المتحدة ومصر وتثير الرئيس الاميركي إلى درجة انه يتجاوز بها الابواب المغلقة بصورة غير مسبوقة.

ويبقى الامر في النهاية مرهونا بقدرة الرؤساء على إعادة فرز الاجندات لفصل الخاص عن العام حتى تستقيم الامور

العدد 12 - الثلثاء 17 سبتمبر 2002م الموافق 10 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً