يصعب ضبط العلاقات الأوروبية ـ الأميركية في ميزان ثابت. فالميزان دائم التقلب، فمرة ترجح كفة التنافس الاقتصادي ومرة ترجح كفة التحالف السياسي.
وأساس الاضطراب هو وضوح الرؤية الاستراتيجية الأميركية الموحدة وغياب تلك الاستراتيجية الواحدة عن أوروبا.
فالاتحاد الأوروبي حتى الآن نجح في تجاوز حال «جامعة الدول العربية» إلا أنه لم يصل إلى صيغة الولايات المتحدة. فالاتحاد أرقى تنظيميا من الجامعة ولكنه أقل بدرجات من حال الوحدة الأميركية. فالأخيرة تنطلق من نظام «الولايات» التي تتمتع بهامش من اللامركزية إلا أنها في النهاية خاضعة لنظام مركزي فيديرالي. بينما الوحدة الأوروبية تقوم على نظام «الدول» التي تتقارب جغرافيا ولكنها تبقى متباعدة سياسيا.
بريطانيا، مثلا، في «منزلة بين المنزلتين» فمرة أوروبية ومرات أطلسية. فهي قائدة سياسيا في الاتحاد الأوروبي وملحقة سياسيا بالولايات المتحدة.
فرنسا، أيضا، حائرة بين صيغة أوروبية تطغى على تاريخ «الفرانك» وصيغة اتحادية تحفظ شخصيتها الثقافية من دون الذوبان بين ثقافة الانغلوساكسون وثقل الجرمان (الألمان) البشري وعودتهم إلى قيادة أوروبا اقتصاديا.
ألمانيا، أيضا، مترددة بين عنفوان تاريخها ودورها الريادي في الصناعة والفلسفة، واضطرارها إلى القبول بالشروط الأميركية لحمايتها من روسيا ومسايرة المخاوف الأوروبية خوفا من نمو قوتها العسكرية.
إيطاليا، أيضا، تائهة بين هوية متوسطية تاريخيا (الامبراطورية الرومانية) ونزعة تحديثية تدفع برأسها إلى الشمال بينما قدمها غائرة جنوبا في مياه المتوسط.
كل دولة من دول الاتحاد الأوروبي عندها مشكلة داخلية تقوم على مبدأ التناقض السلمي بين الهوية الوطنية القديمة والشخصية الأوروبية الحديثة.
ويدور التناقض الداخلي بين تيار يغلّب الطابع «القاري» على الدولة وتيار مضاد يتمسك بالطابع «القومي» للدولة. وبينهما تتجه تيارات ثالثة إلى تركيب خط يزاوج بين النقيضين من دون أن ينجح في نسج صورة واضحة عن مستقبل الدولة التاريخية وهويتها.
هذا الارتباك (ازدواجية الشخصية) تدركه الولايات المتحدة وتلعب عليه. فأميركا تجاوزت محنة الازدواجية بعد انتهاء حربها الأهلية في العام 1860 وانتصار تيار المركزية (الفيديرالية) على تيار اللامركزية (الكونفيديرالية). ولأنها مرتاحة زمنيا من هذه الازدواجية تلعب الدولة المركزية عندها دور القائد للقاطرة (50 ولاية) دافعة حركتها في اتجاه واحد وضمن استراتيجية واضحة المعالم والأهداف.
مقابل التماسك الأميركي نلاحظ التخبط الأوروبي نظرا إلى وجود أكثر من قائد للقاطرة (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا). وكل قائد يريد جر العربات (15 دولة) وراء رؤيته وتصوره الخاص، وهذا من الأمور المستحيلة.
لذلك نجد الولايات المتحدة على رغم توازن قدراتها التنافسية اقتصاديا مع أوروبا فهي لاتزال تتزعم القيادة السياسية عالميا. فأوروبا حتى الآن شكلت قوة اقتصادية منافسة وعملة قارية موحدة، وتنظيمات اتحادية متقدمة، لكنها لم تنجح حتى الآن في تأسيس وحدة في وجهة نظر سياستها الخارجية اوالدفاعية.
أوروبا تحتاج إلى وقت، وربما إلى فترة لا تقل عن العقد من الزمن حتى تكتشف قوتها الخاصة ووزنها العسكري في تشكيل صيغة جديدة للنظام العالمي.
إلى هذا الوقت تعاني أوروبا من مشكلتين موضوعيتين: الأولى، صغر رقعتها الجغرافية قياسا بأميركا. والثانية، قلة مواردها الطبيعية (وتحديدا النفط والمواد الأولية) قياسا بكثافتها السكانية. بينما الولايات المتحدة فهي لاتزال حتى الآن دولة مركزية ممتدة داخليا تملك العمق الجغرافي والثروات الأولية (المواد الخام). فالموارد الهائلة تحقق لها «الاكتفاء الذاتي» إذا قررت يوما الانعزال عن العالم. فأميركا تستطيع العيش (بصعوبة طبعا) بعيدا عن العالم بينما أوروبا لا تستطيع. فهي بحاجة إلى العالم كما هو العالم بحاجة إلى أوروبا.
وهنا قوة أوروبا وضعفها. فهي تستطيع أن تقدم نفسها إلى العالم بوصفها منقذا لأنها بحاجة إليه وهي أيضا تستطيع أن تطرح صيغة دولية للتعايش السلمي بين الشعوب بأسلوب أكثر حضارية. فأوروبا هي جزء من الثقافات (الحضارات) القديمة التي تشكلت في المتوسط وصعدت إلى شمال القارة الأوروبية ومنها عبرت الأطلسي إلى العالم الجديد.
فالدور الأوروبي مهم ولكنه حتى الآن لم يستكمل الشروط التاريخية اللازمة للوقوف على قدميه من دون حاجة إلى مظلة أميركا الأمنية... لذلك فهي مضطرة دائما إلى مراعاة خصوصية أميركا وطموحاتها التي لا حدود إنسانية لها. من هنا حين نراقب العلاقات الأوروبية ـ الأميركية نلاحظ أنها متأرجحة بين كفة التنافس وكفة التحالف. فمن ناحية الاقتصاد نجد أن أوروبا (الاتحاد) تتجه نحو قطيعة مالية مع الولايات المتحدة. ومن ناحية السياسة نجد أن الاتحاد الأوروبي منقسم على نفسه بين دافع نحو المزيد من الاستقلالية عن الهيمنة الأميركية وقابل بصيغة الالتحاق السياسي حتى ولو تطلب منه التخلي عن السيادة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 12 - الثلثاء 17 سبتمبر 2002م الموافق 10 رجب 1423هـ