«بين الحاضر والماضي مسارٌ مليء بالتجارب الحياتية للإنسان، قليلٌ من الناس تربط حياتهم بهدف وضعوه نصب أعينهم لتحقيقه، كان هناك هدف كنتُ أرنو لتحقيقه، هو أن أصبح رساماً ومؤرخاً للتراث منذ طفولتي الأولى، كان درسي الأول عندما رسمتُ منظراً علقه مدرس الرسم في قاعة المدرسة الغربية الابتدائية سنة 1946»، هكذا اختصر كريم العريض مسيرة 70 سنة في الفن، وهو الفنان التشكيلي البحريني الذي تاه في غواية اللون منذ طفولته الباكرة.
ولد العريض في العام 1934 في المنامة، وافتتح أول معرض خاص العام 1960، ويعد من أبرز رواد الفن التشكيلي في البحرين الذين أسسوا الحركة التشكيلية، وشارك في العديد من المعارض الفنية في البحرين وخارجها، وله مؤلفات في الفن والتراث الشعبي، كما حصل على العديد من الجوائز التقديرية، ووثق تاريخ البحرين عن طريق لوحاته.
الماضي هو تجربة للحاضر...
ومن يركب السلم لا ينظر للخلف
يقول العريض متحدثاً إلى «الوسط»: «بعد هذا العمر الطويل في الفن، أشعر براحة لأنني أوجدت ما أردت أن يوجد، وهي الحركة الفنية والثقافية اليوم في البحرين، أقيم أول معرض مختلط للفنون في العام 1948، وكانت البداية».
ويؤكد العريض بأن الفن هو لغة العالم وبأنه الشعور الدائم الذي يحاصره بأن يخرج في كل يوم بما هو جديد.
ويقول العريض عن الزمن الذي مضى والأحبة الذين رحلوا: «الماضي هو تجربة للحاضر، دائماً الماضي تجربة لليوم، واليوم تجربة للمستقبل، من يركب السلم لا ينظر للخلف؛ لأنه اذا نظر للخلف سيسقط، نظرتنا للخلف تعني بأننا متخلفون، أما نظرتنا للأمام تعني أننا متقدمون».
ويضيف «كل ما أتمناه للفن والإنسان، يتمثل في الشعار الذي وضعناه لندوة الفن والأدب، الإنسان ابن الإنسان والأرض للجميع، الإنسان دائماً هو نفسه الموجود في كل مكان، بشعوره وتفكيره».
وعن نزاعات وآلام العصر يقول مؤملاً: «الإنسان سيرقى أكثر مع الفن، كل هذه الحروب والنزاعات التي نراها في العالم ستنتهي لأنها مرحلة سيتقدم بعدها الإنسان الى ما هو أرقى وأسمى، هذه الكرة الأرضية التي نحن عليها قالوا عنها بأنها أرض الله الصغيرة، وسيتقدم الإنسان ليجد ما هو أكبر وأوسع في الأفق البعيد».
70 عاماً من العطاء للفن
«قضيت 70 سنة بين ألواني وفرشاتي، ما يحركني دائما هو الحب، أستمر لأني أشعر بالحب الصحيح الذي يعني بأنك إن أحببت شيئا لا تتركه ولا تتخلى عنه»، هكذا علق العريض على مشوار السبعين عاماً.
وتذكر ابنته لونا، بأن أمورا كثيرة أدت إلى استمراره، أهمها أنه يملك تسامحا وسلاماً داخلياً، وتقول: «لم أره غاضبا يوما، برغم ما مر به من ظروف. والدي تربى يتيم الأم والأب وتوفيت أخته، وقبل عامين توفيت أمي والكثير من أحبته، لكن كل الأوقات السيئة التي يمر بها يتجاوزها بتسامح مع الكون، فتؤثر عليه إيجاباً لا سلباً، كما أن أبي لا يؤمن بفكرة التقاعد، و يقول دائما إن الله أعطاني حياةً لأعطي لا لأتوقف».
وتضيف لونا «ليس متعصبا لأي أمر بل للإنسانية، كبرنا دون أن نعرف بأننا شيعة، على الرغم من أننا محافظون، لكنه كان يرفض دائما الحديث عن الطوائف».
وعن حياة أبيها اليومية، تقول: «الرسم طول الوقت، الاستماع لإذاعة البي بي سي، والذهاب يوميا للسوبرماركت لشراء كل شيء طازج، منذ أن عرفته وهو يحافظ على نمط حياة صحي. كان دائماً متفتحا ومتجددا، ربما بسبب اختلاطه مع الجنسيات والثقافات المختلفة».
ويقول الفنان محسن التيتون عن العريض: «هو فنان يمتاز بالحكمة، جذب الآخر وتوجيهه، رغم كبر سنه لديه القدرة على مناقشة من يصغره دون أن يستشعر فارق السن، الفن عشق، وإذا ما عشق الفنان فإن عطاءه لا محدود، لكن كريم العريض يملك ما هو أكبر من العشق، يملك المسئولية ويحمل هم الفن منذ بداية تأسيس الحركة».
اعتزال المجتمع والالتصاق بالفن
تتحدث لونا العريض عن أبيها «أبي هادئ جداً ويميل للعزلة، دائماً ما يبحث عن مكان يكون فيه وحيدا ليمارس فنه ويتهرب من التجمعات الاجتماعية، على العكس من والدتي تماماً فهي اجتماعية جداً».
وتضيف «كنا لا نراه كثيراً، ولكن بعد وفاة أمي في العام 2014، بدأ يقضي وقت الرسم في المنزل، كان دائم الانشغال بالفن، غالباً ما يقضي وقته في المنامة في دكان الرسم خاصته ومن ثم الجمعيات والمعارض. أبي كان مسئول الشئون المالية وأمي كانت مسئولة إدارة المنزل على الرغم من أنها أيضا قضت غالب وقتها في المنامة لأنها قارئة حسينية، وأنا وإخوتي قضينا أوقاتنا في منزلنا بمدينة عيسى دون أمي وأبي».
من ذاكرة الحرب
كانت أولى لوحات العريض في السادسة من عمره، حيث رسم طائرةً حربية، إبان الحرب العالمية الثانية.
ويستذكر كريم أيام الحرب، «أذكر المجاعة التي ألمت بالبحرين جيدا، انقطعت الأرزاق وتوقفت السفن، حتى وفر المستشار البريطاني تشارلز بلجريف تموراً من البصرة ورزاً وسكراً من الهند، كل شيء انتهى في البحرين، في بيتنا أيضا عانينا من المجاعة، كان الكل فقيرا من بداية الهرم لأسفله في السنين الأولى من الحرب».
المنامة عاصمة القلب والنشأة
تمتد جذور كريم العريض إلى مدينة المنامة، ويقول في عودة لعقود خلت: «توفيت زوجة أبي بعد إنجابها أخواتي الأربع: مدينة، مريم، طيبة ومحفوظة، وخامسة توفاها الله، فكانت أمي الزوجة الثانية، واخوتي الأشقاء هم صالح وطاهر».
ثم يضيف بحسرة أخفى ملامحها الزمن «عشنا حياةً رغيدة قبل الحرب واليوم، أخواتي جميعهن موتى، وصالح أخي توفي قبل سنتين. الموت سلبني محفوظة أيضا، كانت الأقرب لي لأنها الأقرب من عمري وأذكر من أيام الشتاء معها دروس الحساب التي يعلمنا أبي إياها».
ينظر بعينيه للأفق مسترجعا ذاكرته «أحببت المنامة، كانت جميلة وصارت أجمل، الكل فيها يعرف الآخر ويتعاون معه بمختلف الجنسيات والأعراق».
ويضيف «كان الميت، إذا مات في المنامة، يضع أهله حصيراً على باب البيت، حتى إذا مر شخص ما يعلم أن لهذا البيت متوفى ويحتاجون للمساعدة فيساندونهم».
وعن المنامة أيضا يقول: «أذكر أنني اشتريت ذات مرة «قاري» بنص ربية، وذهبت أجره في الحي، لكن الأطفال كانوا لا يلعبون معي دون مقابل، لأنهم يعرفون أن حال أسرتي المادي أفضل من باقي الأسر، فكنت ألجأ لوالدتي وتعطيني حلوى الخنفروش لأوزعها على الأطفال، كانوا إذا رأوني يقولون: جه كريموه ولد الدولة، يقصدون بذلك أني كنت غنياً»، يضحك مستذكراً «يلعبون معي للمصلحة فقط».
طفولة هانئة مضت على عجل
يقول العريض عن العام 1941: «كنت في السابعة وأشياء كثيرة تغيرت في هذا العام، مات والدي، ثم أمي. لأمي حكاية غريبة مع الموت، أحضروا النعش ثم سمعنا صراخ إحدى النساء تقول بأنها فتحت عينيها، استيقظت أمي قبل الدفن ولكن المرض لم يفارقها، فاصطحبها أهلها للبلاد القديم حيث مسقط رأسها. مر شهران لم أرها أبدا، زرتها لاحقا ثم انتكست وتوفيت أيضاً».
ويضيف «بعد وفاة والدي، توزعت وإخوتي على منازل الأقارب»، يضحك مازحا «مثل قريش، حين توفي النبي نقلوه إلى منزل عمه... نقلوني إلى منزل سالم العريض ابن عمي جواد نائب رئيس مجلس الوزراء. سالم كان مدير المدرسة في البداية، ثم نقل مديرا لمحاكم البحرين، وكان يعمل في الإذاعة. أثر فيّ ذلك بأن صرت مهتما بالأخبار والثقافة».
في بداية الثانوية العام 1952، أسس العريض ومجموعة من الطلبة جمعية ندوة الفن والأدب، اجتمعوا في البداية في مجلس منصور العريض ثم حولوها لمكتبة.
تزامن ذلك مع أيام الاستعمار البريطاني للبحرين، وكان المستشار البريطاني تشارلز بلجريف رساماً، وزوجته مديرة معارف البنات، وابنه جيمس اهتم بالفن والأدب وربطته بكريم العريض صداقة وزيارات كثيرة.
ويقول عن علاقته بجيمس: «علاقتي به كانت تساعدني في تحركاتي الفنية، فقد كانت تسهل لي كثيرٌ من الأمور والتراخيص. لم نرتبط بجيمس وبلجريف بالعداء، فقد كان معظم أفراد أسرتي يعملون مع الدولة في مناصب مهمة، كانت مواقفنا مع الدولة آنذاك، فقد كنا جزءا منها».
زواج تقليدي و9 أولاد
«بلغت الرابعة والعشرين من عمري، بعد أن قضيت وقتا طويلا مع الجمعيات والمعارض والسفر مع أصدقائي الأربعة»، يبتسم ويقول: «كنا نسافر صيفا على الدرجة الأولى ونلبس ملابس الموضة»، بعدها قررت أن أتزوج ابنة عمتي.
هكذا علق العريض حين سألته عن زواجه المتأخر وقتها، وأضاف «لم تكن تجمعنا علاقة حب مثل شباب هذه الأيام، كانت ابنة عمتي وطلبت يدها من أهلنا، أحببتها بعد أن تزوجنا، لكنها ماتت أيضا قبل عامين مثلها مثل أحبة كثر».
أنجب كريم العريض 9 من البنين والبنات. نهارين ولونا هما الأصغر والأقرب إليه في عمله، فقد ترجمت لونا مؤلفات أبيها للإنجليزية.
مدارس فنية مختلفة
انتقل العريض بينَ المدارس الفنية المختلفة ليجد نفسه بينها، وخصوصا أنه كان من مؤسسي الحركة التشكيلية، بدأ واقعياً ثم سعى لدمج الواقعية القديمة بالحديثة، ثم انتقل للدادائية، ومنها للسريالية، إلى أن وصل إلى الفن الحديث المعاصر وتصوير سياحة الناس.
يقول الفنان محسن التيتون الذي شارك العريض في معارض فنية عدة داخل البحرين وخارجها: «هو دائما يملك شغف الاطلاع، لم يمارس الرسم فقط بل الجبس والجرافيكس والشاشة الحريرية والخط والزخرفة وكثير من التجارب. وتميز في أعماله ببساطة الأسلوب وقوته، كما كانت قوة الأرض وحبها، أسلوبه امتزج بتراب الوطن».
العدد 5150 - الأربعاء 12 أكتوبر 2016م الموافق 11 محرم 1438هـ
كملت ثلاثة ارباع الموضوع
وانا افكر اشلون البنت اسمها لوناالعريض وأبوها محسن التيتون
والموضوع يتكلم عن الفنان الكبير كريم العريض
الصور تخدع
شكرا الوسط على هذا التميز وشكرا الى عائلة العريض الذي خدمت شعب البحرين في كل المجالات فمنهم المدرسين ومنهم الاطباء ومنهم الفنانين وليست غريبه على شعب البحرين المعطاء على هذا التميز وشكرا مرة اخرى للوسط وبالاخص الاخت حوراء
بصمات خالدة
الإنسان إبن الإنسان، و الأرض للجميع.
شُـكراً للوسط، و حفظ الله هذا الفنان المُعطاء ..
بروفايل مميز لشخصيه تستحق تسليط الضوء عليها..
شكرا لابداعكِ الا محدود حوراء ، شكرا للوسط لطرح مثل هذه المواضيع المميزة ..
تقرير أكثر من رائع لفنان بحريني مثقف و مخضرم، رفد الحركة الفنية في البحرين بعطاء فني أسهم في تطورها و نهضتها ،اتمنى للفنان كريم العريض طول العمر و الصحة العافية.
دكتور خليل
شكرا جزيلا للاخت حوراء و لجريدة الوسط على مشاركتنا هذا التقرير الرائع والمميز
رووووعة.. التقرير جدا ممتاز يحمل قيمة توثيقية عالية.. حبيته من كل قلبي
تقرير جميل ومعلم وفنان كبير
عمل متميز كالعادة يا حوراء .. سلمت يداك
تقرير أكثر من رائع لفنان بحريني مثقف و مخضرم، رفد الحركة الفنية في البحرين بعطاء فني أسهم في تطورها و نهضتها ،اتمنى للفنان كريم العريض طول العمر و الصحة العافية.
دكتور خليل
تقرير راقي ..
نحنُ بحاجة لمثل هذه التقارير المميزة لكي نطّلع على إبداعات الناس وعطاءتهم ..
جميل جدا جدا حوراء
ماشاءالله عليك 70 سنه كله رسم
قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا: سلامي و تحياتي و احترامي الى المربي الفاضل أستاذي محسن التيتون هذه التحية يبعثها تلميذك أيام السبعينات في مدرسة القضيبية الاعدادية للبنين.
ابدعتي حوراء
تقرير مميز
فنان مبدع بكل معنى الكلمه
الله يطول في عمره يا لونا ويخليه ليكم ..فنان متميز