انتهى الجزء الأول من المراجعة أمس الثلثاء (11 أكتوبر/ تشرين الأول 2016)، بمقال المترجمة والكاتبة الإيطالية إليزابيللا كاميرا دافليتو «الهروب من الحياة»، وقد كان ضمن ملف أصدرته مجلة «الدوحة» القطرية في عددها (107) لشهر أكتوبر 2016؛ حيث أنهته بملاحظة على «الجنون الجديد» كما أطلقت عليه، تتعلق بأسوأ شيء قدَّمه الذين اخترعوا اللعبة إلى العالم بالقول: «ليس لديهم أي احترام لأي مكان، وهذا شيء لا أحبه، لأن هذه الحيوانات الافتراضية اللعينة، مخفية في كل زمان وفي كل مكان، حتى في أماكن العبادة وفي مقابرنا، ولاعبونا يطاردونها في كل مكان للقبض عليها، حتى من دون الحاجة لمراعاة قدسية أماكن معينة، والاحترام الواجب تجاهها».
نقف في مقالة فروزسينا إردوغ «ماذا يقول هَوَس بوكيمون غو عن المجتمع العصري»، بإشارتها إلى أن العالم أصبح أخيراً جاهزاً للواقع المُعزَّز، مستشهدة ببعض رؤى الهيئات المالية التي ترى أن اللعبة ستغيِّر وجهة تكنولوجيا العصر «فليس ذلك من نوعية الثرثرة الدعائية التي تبتغي الإثارة؛ فالواقع المُعزَّز، كما ترى، يوشك أن يتحوَّل إلى نشاط يدرُّ أرباحاً كبيرة»، وضمن التقديرات التي توردها إردوغ، فإن تطبيق «بوكيمون غو»، قد تجاوز في شعبيته «سناب شات»، و «تويتر»، قياساً بعدد المستخدمين النشطين يومياً.
التأثير الذي يمكن أن يحدثه «الواقع المُعزَّز» سيطال كل قطاع. لا قطاع سيكون بمنأى عنه خلال السنوات القليلة المقبلة، ولعل رؤية مدير التطوير النموذج الأوَّلي المتقدِّم في معهد التكنولوجيا الابتكارية التابع إلى جامعة جنوب كاليفورنيا، تود ريتشموند، الذي تحدث إلى الصحافية جنيفر بوتون في موقع «ماركت واتش» تضعنا في الصورة بشكل أوضح، بقوله: «إن تأثير الواقع المُعزَّز سيطال جميع القطاعات وشتى مناحي الحياة، أما الواقع الافتراضي فهو الآن صيحة العصر»، إلا أن إردوغ تخالفه الرأي، بإشارتها إلى أن الواقع المُعزَّز «قد لا يتطور كصناعة، ولكنه هو صيحة العصر الجديدة والحقيقية. وأتوقع أن أرى بحلول نهاية هذا العام مجموعة متكاملة من ألعاب الواقع المُعزَّز، بل إنني على استعداد للرهان على أن واحدة من أولى تلك الألعاب التي تعتمد على الواقع المُعزَّز ستظهر على (فيسبوك) ودون الحاجة إلى نظَّارات».
أسرى القلق والوحدة
إردوغ تضعنا في سياق واقع نعيش تفاصيله؛ بل نحن من نسهم فيه بطريقة أو أخرى. القلق الذي ينتابنا نحن نصنعه، أو لنا يد فيه بشكل مباشر أو غير مباشر. الوحدة هي الأخرى لا تهبط علينا من دون سابق إنذار. نحن من نصنعها، أو نصطنعها، وأحياناً نجلبها لأنفسنا من دون أن نشعر، كذلك الأمر بالنسبة إلى الكسل الذي ينتاب كثيرين منا، هو نتاج تعاطينا أو عدم تعاطينا مع تفاصيل من حولنا. لذا ترى أننا أصبحنا بسبب التكنولوجيا أسرى الشعور بذلك القلق والكسل والوحدة «وربما جاءت بوكيمون غو لتنقلنا من مصير مجهول». هل يمكنها أن تفعل ذلك؟ ألا يبدو ذلك الهوس باللعبة نوعاً من أنواع التورط والدخول في مصير المجهول؟ اللهو في أقصى درجاته، سفحاً للزمن، وإراقة لمَائه هو في لهو لا ينتهي! هنالك من يرى أنها ساهمت في التقريب بين الناس. عن طريق ماذا؟ عن طريق التربُّص. هنالك اكتشاف للأمكنة التي هي لصيقة بنا ولكننا لا ندخل في تفاصيلها: اكتشاف الحديقة عبر النزهة التي تتيحها اللعبة. الحوار الودي الذي يجريه الأشخاص وجهاً لوجه مع شخص آخر «حتى وإن كان ذلك بمساعدة هاتف ذكي». هنالك من يرى في التطبيق نفسه، وبالرواج الذي حققه، فرصة للياقة البدنية. تلك المتاهة التي تدخلنا فيها اللعبة. وإن كانت لياقة ليست عن طيب خاطر. الناس بسبب هذا التطبيق باتوا يخرجون «من منازلهم ومكاتبهم ويمشون، ويستخدمون سيقانهم الحقيقية. يا للابتكار»! في مقابل التكنولوجيا العصرية التي جعلت حياتنا وحركتنا مراوحة في مكانها، على رغم أنها جعلت الحياة أكثر يسراً وسهولة. وضعية الجلوس أمام التلفاز، والحاسوب، وأجهزة الألعاب المنزلية، وكذلك السيارات التي تقلنا أينما نريد، كل ذلك أسهم إسهاماً مباشراً في استيطان أمراض، أو تربُّصها بنا، بدءاً بالآلام التي نعاني منها جراء ذلك، وكلفة العلاجات لأمراض خطيرة ورائجة مثل السرطان والسكَّري وأمراض القلب والأوعية الدموية.
تشير إردوغ إلى أن التكنولوجيا تلك، لا تؤدي فقط إلى تدهور صحتنا الجسمية فحسب، ولكنها أيضاً تعوق قدرتنا على إجراء محادثات في الحياة الواقعية، وهي مسألة لاتزال موضع بحث ودراسة من قبل الصحافيين والباحثين منذ سنوات. في العام 2011، قالت اختصاصية الطب النفسي في معهد عقل الطفل، ميليسا أورتيغا، خلال مقابلة مع موقع «هافينغتون بوست»، إن المراهقين هذه الأيام «لا يعرفون كيف يتعاطون في خلافاتهم مع الآخرين وجهاً لوجه».
ثمة ورقة بحثية أيضاً تم نشرها في أكتوبر العام 2014؛ حيث وجد علماء جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس أن «المراهقين الذين يدمنون الهواتف الذكية يواجهون صعوبة في قراءة انفعالات الناس في الحياة الواقعية»، وهو ما أسْمتْه صاحبة الدراسة، أستاذة علم النفس في جامعة كاليفورنيا، باتريشيا غرينفيلد «انخفاض الحساسية للإشارات الإنفعالية»، فيما تساءلت الكاتبة المتعاونة مع مجلة «فوربس» سوزان تاردان، العام 2012، عمَّا إذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي تُقوِّض مهارات الاتصال في الحياة الواقعية لدى جميع الأعمار، وإذا تذكَّرنا ما خلُص إليه قسم الصحة في شركة ياهو في العام 2015، إلى أنه حتى الكبار يواجهون الآن صعوبة في عمليات التواصل المباشر وجهاً لوجه، نكون أمام ضريبة يتحتَّم دفعها بذلك الاستسلام الكلي لكل تلك المعطيات التكنولوجية والمنصات الاجتماعية، والتطبيقات المختلفة التي بين أيدينا.
في مقابل ما أحدثه تطبيق «بوكيمون غو» من ثورة في استئناف العلاقات بين البشر، ومواجهة الناس بعضهم بعضاً، ولعل ما ذكره الكاتب المتعاون مع مجلة «فوربس» إريك كين، يزيل كثيراً من صورة التشاؤم، أو الصورة الثابتة والنمطية التي أوجدتها بعض التكنولوجيا والتطبيقات، مثنياً على «بوكيمون غو» في استئناف مثل تلك العلاقات، وتقريب الناس بعضهم إلى بعض «فحتى رجال الشرطة بدأوا يلعبونها مع المدنيين»، ما يشير إلى عودة الناس مرة أخرى إلى التحاور وجهاً لوجه.
كبرى صادرات اليابان الثقافية
تشير إردوغ إلى أنه ليس هناك سوى اليابان التي تستطيع صادراتها الثقافية منافسة صادرات الولايات المتحدة. عندما تفكِّر في البلدان صاحبة الصادرات الثقافية الأكثر تأثيراً حول العالم، فإن الولايات المتحدة تحتل، وربما ستظل كذلك دائماً، المرتبة الأولى عالمياً. «فسلاسل مطاعم الوجبات السريعة والأجهزة، وأفلام هوليوود تنتشر في جميع أنحاء العالم، ويتم ترجمة الأخيرة إلى جميع اللغات الممكنة، وربما يذهب الظن بك إلى أن الصين، باعتبارها المنتج الأكبر في العالم، هي الدولة التي تشغل المرتبة الثانية بطبيعة الحال، ولكنها تصنِّع وتصدِّر منتجات لدول أخرى»، ومنها إلى بريطانيا. ماذا عنها؟ تُوضح إردوغ بأن لديها موسيقيين، وبرامج تلفزيونية، وهي لذلك قد تكون صاحبة المرتبة الثانية، ولكن إذا نظرنا إلى حالة الهَوَس التي أحدثتْها بوكيمون غو، فإن المرتبة الثانية في التأثير الثقافي ربما ينبغي أن تؤول إلى اليابان.
خلاصة ما كتبته إردوغ يتحدد في أن «بوكيمون غو» لم تُبرهن للعالم على مدى النجاح الذي يمكن أن يبلغه الأنمي الناجح فحسب، وإنما فعلت الشيء ذاته مع الواقع المُعزَّز. «وربما تكون بوكيمون غو هي كبرى صادرات اليابان الثقافية، وتصبح هي المنافس للعبة ماريو بروس، المملوكة لشركة نينتيندو».
خراب الفضاء العام
من بين الرؤية العربية التي تضمَّنها ملف «الدوحة»، يبرز مقال مروى بن مسعود «البوكيمون غو... طُعْم الاستقطاب»، بدأته بما أسمته إصابة الذين يهيمون في المنازل والطرقات بهواتفهم بحثاً عن البوكيمونات، بـ «البوكيمونايا»، أو جنون البوكيمون، وتأثير اللعبة الحركي والتواصلي، وجمعها بين غرباء في المكان نفسه، وفكرتها الإبداعية التي تدمج الواقع بالخيال.
تتناول مروى ما أطلقت عليه «خراب الفضاء العام»، فبدلاً من زرع الطعوم حول التحف الفنية، تحركت متاحف أخرى لأسباب مختلفة للمشاركة في هذا الجنون! «وقد سارع متحف موريكامي والحدائق اليابانية في ديلراي بيتش، فلوريدا إلى مساندة اللعبة بسبب الارتباطات الثقافية»، موردة ما قالته مونيكا أمار، التي تعمل في مجال التسويق في المتحف، والذي يضم 15 مكاناً لصيد البوكيمونات: «شعرنا بأن لدينا ارتباطاً ثقافياً مباشراً بهذا الامتياز الياباني»، مضيفة «الحضور تزايد منذ إصدار التطبيق للمرة الأولى... لقد وجدنا أنه بمجرد أن يأتي الناس للعب البوكيمون فإنهم يعودون إلى زيارة المتحف والحدائق، بحثاً عن فرصة لصيدهم وسط المناظر الطبيعية الخلابة».
تضعنا بن مسعود أمام صفحة للمعجبين بالمتحف نفسه على الفيسبوك، حيث نشر الزوار صوراً من الحديقة المُخرَّبة جراء صيادي البوكيمونات، وعمد بعض المستخدمين إلى نحت أسماء فرقهم على الأشجار، بينما قبض حراس المكان على آخرين بصدد تسلق الأشجار. ما دفع إحدى المغرمات بالحدائق، كاندي كاليستار إلى القول: «أشعر بالفزع بعد أن لُطِّخ مكان هادئ كهذا من قبل البلهاء مطاردي البوكيمون. أشعر بالاشمئزاز بسبب عدم لطف هؤلاء الأطفال، ولكنهم ليسوا أطفالاً فقط؛ يجب احترام البيئة من حولنا».
في الجانب الآخر من العالم، وتحديداً الولايات المتحدة، طلب متحف ذكرى الهولوكوست بواشنطن من مطوِّري اللعبة إزالة نقاط صيد البيكومونات من المتحف بعد أن تفطَّن الموظفون إلى محاولة بعض المستخدمين صيد البوكيمونات هناك.
ثمة خراب لحق بالفضاء العام. الأمكنة التي من المفترض أنها تقدِّم قيمة معرفية (المكتبات، المتاحف، معارض الفنون)، والأمكنة التي من المفترض أنها تقدم قيمة جمالية (الحدائق)؛ حتى المقابر لم يتم توفيرها في ذلك الهيام المفتوح على العالم؛ بل هو الجنون المفتوح على الاستمتاع بما بعد الملل.
بوشكين مقابل بيكاتشو
ينتقل بنا مقال مروى بن مسعود هذه المرة إلى روسيا؛ حيث غرقت في جنون لعبة البوكيمون «ما دفع ببلدية موسكو إلى إطلاق تطبيق مماثل للبوكيمون غو، يحث المستخدمين على البحث عن شبه افتراضي لشخصيات من التاريخ الروسي في أنحاء موسكو. التحديث حمل اسم «اعرف موسكو»، فبدلاً من مطاردة الوحوش الصغيرة، اقترح المصممون صيد شخصيات تاريخية والتقاط صور شخصية معهم.
ويشير المقال إلى أن أشباه المشاهير الافتراضيين، يعيشون في الأصل في شوارع موسكو: القياصرة الروس، إيفان الرهيب، وبطرس الأول، والكاتب ألكسندر بوشكين، ورائد الفضاء يوري غاغارين، ونجم الروك السوفياتي فيكتور تسوي والعديد من الشخصيات الروسية الأخرى.
البوكيمون... الجذور
يأخذنا المقال إلى جذور لعبة البوكيمون التي ظهرت للمرة الأولى في اليابان، إلى بحث أكاديمي حول العلاقة المفترضة بين كل من الوحش الياباني «غودزيلا، الوحش العملاق والخيالي أو دايكايجو، الذي ظهر في سلسلة الأفلام اليابانية التي تحمل نفس اسم غودزيلا، وروايات البطل الخارق من جهة، والآمال والمخاوف التي أثارتها التكنولوجيا النووية حديثاً، مشيرة بن مسعود إلى أنه سبق ذلك، بحثها في مجموعة متنوعة من المواضيع الدراسية حول طبيعة ردود أفعالنا التي تختلف كثيراً عندما يتعلق الأمر بالثقافة الرقمية والتفاعلية، مقارنة بالنصوص الثابتة.
أيها البوكيمونيون: لا تغفلوا عن عالمكم الواقعي، وسط شغفكم بالعالم الافتراضي، وما بعده: «الواقع المُعزَّز»، ثمة جنون ربما لن يرحمكم طوال الوقت!