قيل عنها «قاتلة الوقت»، و «لها قوة التخدير بذلك الانجذاب والتوحُّد معها، يوم تم إطلاقها». إنها لعبة الواقع المعزز (Augmented Reality)، «بوكيمون غو»، تلك التي طوَّرتها شركة نيانتيك اليابانية، وهي من ابتكار ستوشي تجيري، وأطلقتها «شركة بوكيمون» في يوليو/ تموز 2016.
الكاتبة الإسبانية نويمي فيرو في مقالها «من مسرح الدُّمى إلى الواقع المُعزَّز»، الذي جاء ضمن ملف نشرته مجلة «الدوحة» في عددها (107) لشهر سبتمبر/ أيلول 2016، ترى أن الواقع المُعزَّز، وفيه البوكيمونات، يحتوى على عناصر عصرنا الراهن؛ حيث يتم اختراع عوالم أخرى لنعيش فيها لعدد من الساعات. «هذا الواقع يلوح الآن كحل بديل بعد تراجع الاهتمام بإمكانية الواقع الافتراضي في توفير فضاء يُغنينا عن بيئة المستخدم الحقيقية، وبعدما أصبح فقيراً وعاجزاً عن تحمُّل وقت فراغنا».
الحمَّى التي اجتاحت العالم لم تعد اليوم كما هي بالدرجة نفسها. ثمة مفارقات وإرباكات حدثت. لم تعد هنالك فسحة للضجر والملل يوم أن نزلت الأسواق. «نسينا الاستمتاع بالملل»، بحسب تعبير فيرو. تلاشت مساحة الملل التي يحتاجها أي منا، كما يحتاج مساحة الانهماك. هنا الملل منهمك «بوكيمون غو»، إذا صح التعبير.
تمنحنا مجلة «الدوحة» فرصة الوقوف على أكثر من رؤية ثقافية وفكرية، ضمن تناول غربي، وآخر عربي، بالملف الذي خصصته للعبة «شاغلة الدنيا والناس» وحمل عنواناً رئيساً «بوكيمون غو في واقعنا غير المُعزَّز»، شارك فيه كل من: مروى بنت مسعود بـ «البوكيمون غو... طُعْم الاستقطاب»، أسماء الغول بـ «العالم إنجنّ يا ماما»، عبدالوهاب الأنصاري بـ «عن واقعنا غير المُعزَّز... بوكيمون غو ثقافياً»، والمترجمة الإيطالية إليزابيللا كاميرا دافليتو بـ «الهروب من الحياة»، عمار إرنست «عليك أن تأسرهم جميعاً»، والكاتبة الإسبانية نويمي فيرو بـ «من مسرح الدُّمى إلى الواقع المُعزَّز»، وفروزسينا إردوغ «ماذا يقول هوس بوكيمون غو عن المجتمع العصري»؟، وقام بترجمته أنور الشامي.
تبدأ الكاتبة الإسبانية نويمي فيرو مقالها «من مسرح الدُّمى إلى الواقع المُعزَّز» بالسؤال الآتي: «هل المرء بحاجة إلى واقع فوق الواقع، أو ممكن أن آباء البوكيمون كانوا يدركون قبلنا أننا نسينا الاستمتاع بالملل»؟ لتعقِّب: «لعل رويداً رويداً سنتعلَّم لعبة العوالم، وهي قد تعتمد على البقاء في عالم، حين يكون الناس في عالم آخر... هل تتصورون حقيقة افتراضية أو مُعزَّزة أعظم من ذلك؟ أنا لا».
الخلخلة المجنونة
تترك فيرو لنفسها مساحة مجازية، والتي هي في وجه من وجوهها مُعزِّزة للفكرة. تتحدَّث عن إعلان العاصمة الإسبانية (مدريد)، المدينة الفارغة بعد هروب سكَّانها إلى سواحل البلد، لتنتقل فيرو افتراضياً إلى عاصمة العالم لـ «بوكيمون غو»، «السبب هو لقاء أكبر عدد من مدرِّبي اللعبة في مكان معيَّن ووقت واحد. والنتيجة خلخلة مجنونة لابد أن ندرسها إلى حد ما لو أردنا أن نبقى في الكون نفسه، «بعد احتلال هذه المخلوقات القديمة المتنكرة في ما بعد الحداثة».
وترى أن الواقع المُعزَّز، وفيه البوكيمونات، يحتوى على عناصر عصرنا الراهن؛ حيث يتم اختراع عوالم أخرى لنعيش فيها لعدد من الساعات. «هذا الواقع يلوح الآن كحل بديل بعد تراجع الاهتمام بإمكانية الواقع الافتراضي في توفير فضاء يُغنينا عن بيئة المستخدم الحقيقية، وبعدما أصبح فقيراً وعاجزاً عن تحمُّل وقت فراغنا». كأن العالم الواقعي لم يعد يفي بالغرض، وكذلك الحال بالعالم الافتراضي. هذا الخروج إلى مسرح الحياة، بالتفاعلية التي تتيحها اللعبة، توجد نوعاً من التواصل وإن بدا مع مخلوقات افتراضية، وإن بدا المتفاعلون يمارسون الجنون في أقصى درجاته. يكفي الوقوف على الإحصاءات التي سُجِّلت في أعقاب الاندماج في اللعبة. الفضاء المفتوح لا يمنحنا فسحة الانتباه إلى خطواتنا، يمكن أن نقع في بحيرة أو خندق أو تنُّور!
تضعنا فيرو أمام تساؤل جمْعي: لماذا الهروب إلى عالم آخر، كما كان يقترح الواقع الافتراضي، إذا كان بإمكاننا أن نحسِّن عالمنا هنا بصورة أكثر جاذبية؟ لابد من التشبيهات هنا، بدءاً بالمرحلة السريالية؛ حيث التواصل الحيوي المباشر الذي أوجدته بين الفرد والكل. ذلك يذكِّرنا بما يحدث بين لاعب أو مدرِّب بوكيمون وشاشة هاتفه الذكي. الزبدة؟ السريالية! السريالية كانت تهدف إلى البعد عن الحقيقة مثلما تهدف أنواع البوكيمونات مع عقولنا عندما يصل الواقع المُعزَّز إلى إضافة أشياء إليها عبر حواسنا لتصبح جزءاً من الحقيقة الواقعية. ثمة استدراك هنا يتعلق بالعناصر المأخوذة من السريالية مثل عدم التماسك والغباوة ومخالفة المنطق. والتي هي ملامح جوهرية في الفن الحديث خلال عقد عشرينيات القرن الماضي. ما يحدث في شوارع المدن اليوم من غياب كلِّي عن المحيط وتفاصيله أثناء ممارسة اللعبة يضعنا أمام أكثر من مشهد سيريالي يكاد يتجاوز بمراحل بعض تفاصيل عدم التماسك والغباوة والخروج على قوانين المدن وليس تفاصيل المنطق وحدها. ألَّا تكون مباشراً في الحياة من حولك. عليك أن تسكن مخلوقات غير موجودة. اللعبة ستتيحها لك. ستعمل على تخريب استمتاعك بالملل، لكنك في نهاية المطاف صنيعة ذلك الملل بالاندماج الكلِّي مع «بوكيمون غو».
الواقع المُعزَّز... المسرح
تستدعي فيرو هنا مسرح الدُّمى باعتباره فناً شعبياً له جذوره الآسيوية القديمة أساساً، والبوكيمونات يابانية! ففي عُروض المسرح ثمَّة مُخرج يختبئ تحت الطاولة، ويُحرِّك الدُّمى بخيوط ممدودة. لا مُخرج لدى البوكيمون. ثمَّة ما هو أكثر من ذلك.
لفن المسرح القديم علاقة بالتصرُّف المجنون والمُبرمج عندما يظهر البوكيمون. فكَّرت فيرو في مكان العرْض أيضاً: الشارع، الميادين، الحدائق «التي أصبحت الأماكن المعتادة في العالم كله لمسرح «الماريونت» (تختلف دُمى المسرح عن دمى الماريونيت التي يُحرِّكها الفنان من فوق بخيوط متصلة بأعضائها المختلفة. كما تختلف عن دمى خيال الظل حيث إن أجسام الدمية تكون أسطوانية الشكل وليست على شكل رقائق. ويتم إلباس الدُّمى ملابس تليق بشخصيتها في القصة، كما تملك وجهاً مُعبِّراً وشَعْراً أو منديلَ رأس أو قبعة). تتساءل: «أليست الحدائق والميادين والشوارع بالضبط هي الأماكن حيث يتم اصطياد زملائنا في العالم الافتراضي؟ الارتياب الوحيد الذي أعجِّل بتفكيكه هو كشف من هي الفريسة المتحرِّكة بالخيوط الحديثة، نحن أم البوكيمونات»؟!
تستدعي فيرو مسرح العبث هذه المرة لتُنضج المقاربة، حيث القلق، والقلوب التي تنبض في انتظار «غودو» («في انتظار غودو»، مسرحية كتبها الأيرلندي صمويل بيكيت. وتدور حول رجلين يدعيان «فلاديمير» و «استراغون» ينتظران شخصاً يدعى «غودو» الشخص لا يجيء لكن الانتظار هو اللعبة في ذلك العبث! هل هو عبث حقاً أن تنتظر ما لا يجيء؟). تُعيدنا فيرو إلى شعورنا بذلك الانتظار. هل سيصل؟ متى سيصل؟ ماذا سيفعل؟ أسئلة توالت في «انتظار غودو». الأسئلة نفسها تدور في مخيَّلات مدربي البوكيمونات اليوم - كما ترى فيرو - في ساحة سول المركزية في مدريد قبل ظهورهم. «الفرق الوحيد بينهما، بين غودو والمخلوقات الافتراضية هو أن هذه الأخيرة لابد أن تظهر لكي تستمر اللعبة، بينما غودو لم يظهر أبداً، ومع ذلك فعدم التأكد والتشكيك يبقى كعنصر مشترك بين الاثنين».
علينا أن ننتظر هذه المرة أيضاً لنرى ما إذا سيستمر الواقع المُعزَّز بالنجاح؛ لكن فيرو لا تحتاج إلى مثل ذلك الانتظار فهي تجزم بأنه في غمار المشهد القديم «المتنكِّر أو الحديث أو ما بعد الحداثة»، لا شك في نجاح الواقع المُعزَّز، عموماً ولعبة البوكيمون غو خصوصاً، «وهو الشيء الذي يأخذني إلى السؤال الأخير: هل المرء بحاجة إلى واقع فوق الواقع، أو ممكن أن آباء البوكيمون كانوا يدركون قبلنا أننا نسينا الاستمتاع بالملل؟ لعل رويداً رويداً سنتعلم لعبة العوالم، وهي قد تعتمد على البقاء في عالم حين يكون الناس في عالم آخر». وتتركنا مع نصيحة لابد منها، وخذوها بجدِّية هذه المرة، والكلام للذين نسوا عالمهم الواقعي، اندماجاً مع الواقع المُعزَّز: «نصيحة قديمة من الأطباء: خذوا أوكسجين خلال الصيف لتحملوا الشتاء، وأضيف أنا: انتبهوا، لا تختنقوا بكثرة غبار النجوم».
الهروب من الحياة
المستعربة والكاتبة الإيطالية إليزابيللا كاميرا دافليتو في مقالها «الهروب من الحياة»، تبدأ بتساؤل من مبنى العنوان نفسه: لماذا يحتاج الإنسان إلى الهروب دائماً، ولا يقبل الحياة التي يعيشها ويلجأ إلى حياة أخرى وهمية تماماً، تتكون من شخصيات مُريعة غير موجودة في الواقع (لحسن الحظ (...)»؟
المقاربة التي تقدمها دافليتو تأخذها بداية إلى ممارسات في المحيط... البيت... الأمكنة التي ننتمي إليها، الكائنات التي نشركها في حياتنا؛ بل تفاصيل حياتنا، وتكون جزءاً من العائلة في كثير من الأحيان؛ ولكن هذه المرة ضمن الواقع الافتراضي؛ حيث تشير إلى أنه قبل بضع سنوات انتشرت موضة تربية حيوان أليف في الواقع الافتراضي «كان عليك أن ترعاه وتطعمه وتسقيه وتنظفه، وإلا مات. ثم سرَت موضة لعبة افتراضية تمثل حياة مثالية موازية: بناء منزل يناسب أذواقنا، يسكنه أشخاص وهميون (حتى من الدُّمى اللطيفة) التي كان علينا أن نرعاهم، فنقدِّم لهم الطعام بانتظام، ونسهر على تلبية احتياجاتهم، وإلا يموتون».
هو الجنون إذا هذه المرة في صور حية لا يمكن لعين أن تغفلها. هل يذكِّرنا ذلك بهيئة الزومبي في مشيه وهو مترنِّح، بخطوات تشبه الأموات الذين خرجوا من القبور لتفقُّد الحياة؟ يبدو التشبيه ثقيلاً بعض الشيء؛ لكن ماذا عن أولئك الذين يرتطمون بالأشياء وهم في ذروة انهماكهم في صيد البوكيمونات؟
دافليتو هي الأخرى تسميه الجنون، ولكنه «الجنون الجديد» بعد وصول بوكيمون غو، في شوارعنا، في مواقعنا الأثرية. «بدأنا نرى أناساً يهرولون من جانب إلى آخر من الطريق مثل (الزومبي) يطاردون شيئاً هم فقط الذي يرونه».
تُبدي دافليتو واحدة من الملاحظات على «الجنون الجديد» كما أطلقت عليه، وتقدم فيها اسوأ شيء قدَّمه الذين اخترعوا اللعبة إلى العالم «ليس لديهم أي احترام لأي مكان، وهذا شيء لا أحبه، لأن هذه الحيوانات الافتراضية اللعينة، مخفية في كل زمان وفي كل مكان، حتى في أماكن العبادة وفي مقابرنا، ولاعبونا يطاردونها في كل مكان للقبض عليها، حتى من دون الحاجة لمراعاة قدسية أماكن معينة، والاحترام الواجب تجاهها».
خلفية تاريخية
ألعاب الواقع المعزز التي تم إصدارها منذ بداية عهد ألعاب الفيديو قليلة للغاية، وتأتي لعبة بوكيمون غو تالية للعبتين سابقتين من الفئة نفسها; لعبة BotFighters في العام 2003 ولعبة إنغرس التي تم إطلاقها في العام 2013 من شركة صناعة الألعاب نيانتيك المطوّر للعبة بوكيمون غو.
فلاش
في «وكيبيديا» نقرأ: «تسمح لعبة بوكيمون غو لمستخدميها بالتقاط وقتال وتدريب كائنات افتراضية تُدعى البوكيمونات (مفردها البوكيمون)، والتي تظهر على شاشات الأجهزة وكأنها موجودة في العالم الواقعي. وتستخدم نظام التموْضع العالمي وكاميرا الأجهزة المتوافقة. تتوافر اللعبة مجاناً لكنها تدعم كذلك عمليات شراء داخل التطبيق لعناصر لعب إضافية. وصدرت اللعبة بالتزامن مع إصدار بوكيمون غو بلس، وهي قطعة إلكترونية صغيرة يمكن ارتداؤها وتم تطويرها من قبل شركة نينتيندو، وهي تستخدم البلوتوث لتنبِّه المستخدم عند وجود بوكيمون في مكان قريب.
حوادث مرافقة للعبة
سُجلت عدَّة أحداث لافتة خلال ملاحقة البوكيمونات ومن أهم هذه الأحداث: عثور مراهقة أميركية تبلغ من العمر 19 عاماً على جثة طافية في إحدى البحيرات وهي تلاحق بوكيموناً مائياً.
عثور مجموعة من الصبية في النمسا على امرأة تغرق في بركة مياه حيث قادهم البحث عن بوكيمون إلى هناك.
يوم السَبت 23 يوليو 2016، تَسببت اللعبة في مُقاطعة بيان لوزارة الخارجية الأميركية، حيثُ كان المتحدث باسم الخارجية جون كيربي يقرأ بياناً لسياسة بلاده في محاربة تنظيم «داعش» حين تفاجأ بأحد المراسلين في القاعة يلعب اللُعبة، حيثُ قطع كيربي بيانه مُتوجهاً بالسؤال للصحافي:»أنت تلعب البوكيمون هناك، أليس كذلك؟»، فرد عليه المراسل: «أنا ألقي مجرد نظرة عليه»، ليعود كيربي لتكملة البيان، وبعد انتهائه أعاد توجيه سؤاله للمراسل قائلاً: «هل أمسكت بواحد من البوكيمونات؟»، فرد المراسل:»كلا.. الإرسال ليس جيداً»!