بعد توقيع «اتفاق الطائف» في «السعودية في العام 1989 بين الأطراف اللبنانية»، استعد اللبنانيون الى دخول في مرحلة جديدة بعد غياب الدولة عن الساحة السياسية لمدة 20 سنة تقريبا. فالدولة بعد طول غياب تحولت إلى مطلب مشترك بين كل الطوائف والمذاهب نتيجة الأهوال التي لقيتها مختلف المناطق بسبب «حكومات» ميليشيات الطوائف. فالدولة آنذاك تحولت إلى رمز الحلم المفقود أو الضائع بين ركام الحطام والتدمير.
بدأت الدولة عملها من خلال إعادة تثبيت القانون والعودة إلى الدستور في حل المشكلات والخلافات بعد أن كان «المدفع» هو وسيلة حوار الميليشيات المتقاتلة لنيل المطالب أو كسر شوكة المخالف أو المنافس. الإنطلاقة الأولى كان البرلمان. فالندوة النيابية هي الوعاء السياسي لمختلف الفئات المتناحرة وهي أيضا الهيئة التشريعية التي تقر القوانين وتعدل الدستور بما يتناسب مع حجم التحولات ونسب التطورات.
آنذاك كان البرلمان اللبناني مجرد هيكل ينظر إليه من زاوية الشك في صحة تمثيله للواقع اللبناني. كذلك تحول إلى منبر شكلي لامجتمع إلا للموافقة على موازنة أو لإقرار مشروع أو لإنتخاب رئيس للبلاد.
وبسبب الإقتتال الأهلي توقفت العملية الإنتخابية في العام 1972 وكان يجدد للنواب كل أربع سنوات مرة حين يقترب موعد الإقتراع وتفشل «الدولة» الغائبة في كل الحالات على دعوة الناس للإنتخاب.
وبسبب صعوبة تنظيم الإقتراع لجأ المشروع اللبناني إلى ابتكار فكرة «التمديد» القانوني للبرلمان المنتخب في العام 1972. وهكذا جدد للنواب حوالي خمس مرات من دون العودة إلى الناخب اللبناني.
وللسبب المذكور فقد البرلمان هيبته وبدأ الناس ينظـرون إليه بالريبة والشك. إذ كيف يعقل أن ينتخب النائب عن دائرة مرة واحدة ويعاد انتاج انتخابه من دون العودة إلى المقترع؟
وعلى رغم تلك الثغرة القانونية نجحت «الدولة» المغيّبة في تثبيت دستورية البرلمان من طريق التعيين في انتظار توقف دوي المدافع وانفجار الصواريخ والعبوات الناسفة التي حصدت عشرات الآلاف من المواطنين.
وتوقفت الحرب بعد «اتفاق الطائف» بصعوبة بسبب رفض بعض الجنرالات «في الجيش والميليشيات» قبول الامر الواقع. وحين استوعبوا المتغيرات وافقوا على التعديلات الدستورية وتوسيع رقعة البرلمان وتوزيع مقاعده بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين. فالشعب تعب من القصف، والناس ملّت من المطالبة بالتغيير. والاحزاب افلست بعد ان اوصلت البلاد والعباد إلى شفير الافلاس والموت والقهر جوعا او خوفا.
تاب الشعب وندم على فعلته. فهذه «سويسرا الشرق» تحولت الى «افغانستان الغرب» ولم يعد يصدق كلام الاحزاب المعسول ولا وعود الميليشيات التي حولت الموت إلى تجارة رابحة بالسلاح وغيرها من مواد غذائية ومخدرات.
لم يعد التغيير هو المطلب بل تحول الطموح إلى شيء متواضع وهو الابقاء على ما تبقى، والمحافظة على الموجود وعدم التفريط به... لان الموجود على سلبياته يبقى افضل بكثير من الحال الذي وصل اليه لبنان في لحظة انفلات العقل من ضوابطه الانسانية والروحية.
الدولة اصبحت المطلب الاول لكل الفئات. حتى الشاعر الصديق محمد العبدالله اصدر ديوانا شعريا حمل عنوان «حبيبتي الدولة». فالشاعر نسي حبيبته ولم يعد عنده حبيبة سوى الرمز المفقود والحلم الموعود الدولة.
تحولت الدولة إلى مسألة مهمة وباتت فكرة لايقول بها أهل القانون والقضاة فقط بل قصيدة يتغزل بها الشعراء.
فالحرب الأهلية التي مزقت الدولة اولا والمجتمع اللبناني ثانيا اسهمت في رفع مكانة الدولة عند اللبناني وبات يرى فيها نقطة تواصل لضبط الخلاف ومنطقة وسطى يلتقي فيها كل الفرقاء والاطراف. فالدولة واحدة وللجميع ولكل فريق مذهبه وطائفته ومنطقته... شرط ان لا تضاف على ان الدولة هي «حبيبة» كل اللبنانيين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 10 - الأحد 15 سبتمبر 2002م الموافق 08 رجب 1423هـ