العدد 5146 - السبت 08 أكتوبر 2016م الموافق 07 محرم 1438هـ

يُبحر بعمق في العلم وفلسفته ويضع البشرية في قلب الكون

«بداية اللانهاية» لدويتش...

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

المنامة - محمد عبدالله عبدالرسول 

تحديث: 12 مايو 2017

هل هناك حد للتقدم البشري؟ وهل سنصل في يوم ما إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه لتدخل حضارتنا بعد ذلك في مرحلة من الجمود؟ يحاول ديفيد دويتش، الفيزيائي من جامعة أكسفورد والمتخصص في مجال «الحوسبة الكمومية» أن يقنعنا بأن الإجابة على هذه الأسئلة هي لا، فالتقدم البشري لا نهاية له. «بداية اللانهاية: تفسيراتٌ تُغَيِّر وجه العالَم»، هو ثاني كتاب للمؤلف، يتطرق في فصوله الثمانية عشر إلى موضوعات علمية وفلسفية مركزاً على أهمية «التفسيرات الجيدة» ليس فقط في العلم، بل في كل مجالات المعرفة البشرية. يقدم دويتش في هذا الكتاب العميق نظرة متفائلة حول قدرة البشرية على الوصول إلى التقدم اللانهائي عن طريق صناعة المعرفة والتي تتم بفعل التفسيرات الجيدة والثقافة النقدية والتفاؤل بأن التقدم ممكن.

في البداية يقوم الكاتب بطرح أفكاره الخاصة حول «الإبستمولوجيا» أو «نظرية المعرفة» والمُلهَمة بشكل كبير من أفكار الفيلسوف النمساوي كارل بوبر. ينتقد الكاتب الفكر التجريبي ويقول إنه على رغم كونه مفيداً في وقت ما من أجل تحريرنا من الأفكار الدوغمائية، فإنه وضع سلطة جديدة مكان القديمة، وأطروحته حول كون الحواس مصدر المعرفة غير صحيحة، فكل مشاهدة محمّلة بالنظرية. إن مصدر المعرفة هو العقل والتفكير، والتجربة هي سبيل لاختبار الفرضيات لا مصدراً للأفكار الجديدة. في المقابل يطرح الكاتب فكرة «اللامعصومية» التي تقوم على أساس إنكار وجود مصادر سلطوية للمعرفة، وعلى أن تفسيراتنا للواقع، مهما كانت ممتازة فإنها تحتوي على بعض الأخطاء جنباً إلى جنب مع الحقائق، ولذلك هناك حاجة مستمرة لتغيير تفسيراتنا نحو الأفضل، ولن يكون هناك تفسير نهائي يتوقف عنده البحث. هذا المذهب ضروري للبدء في نمو معرفي غير محدود.

حدثت «القفزة نحو اللانهاية» مرة واحدة فقط في تاريخ البشرية، ففي بداية التاريخ كانت الأسطورة هي السائدة، وشهدت الحضارة موجات تقدم تبعتها موجات تخلف كما حصل في اليونان والحضارة الإسلامية، فما هو المميز هذه المرة؟ لم يكن ظهور العلم الحديث في فراغ، بل كان جزءاً من حركة فكرية أكبر هي «التنوير» والتي جلبت التقدم في مجالات أخرى كالسياسة وعلم الأخلاق. التنوير في الأساس تغيّر فلسفي وثورة ضد السلطة فيما يختص بالمعرفة، فقبله كان يُعتقد أننا نعرف كل شيءٍ يمكن معرفته، وبذلك لم يكن هناك دافع لمعرفة المزيد. يذكرني كلام الكاتب هنا بما قاله يوفال هراري في كتابه «العقال: موجز تاريخ البشرية» حيث يذكر أن أحد أهم إنجازات التنوير هو «اكتشاف الجهل». تميّزت حركة التنوير بطرح تفسيرات جديدة، وتطوير تقليد نقدي، وعدم التسليم للسلطات المعرفية، والتفاؤل بحدوث التقدّم والسعي لتحقيقه.

والتفاؤل هذا، موضوعٌ يخصص له الكاتب فصلاً بحد ذاته، فهو يرى أن التفاؤل هو الإيمان بالتقدم وزيادة المعرفة، وأن مصدر كل الشرور هو الجهل. كانت هناك تحذيرات تشاؤمية كثيرة عن مصير البشرية الأسود على مدى التاريخ، وارتبطت هذه التحذيرات بمبدأ الوقاية من المخاطر. فمالثوس مثلاً حذّر من زيادة عدد السكان أسرع من الموارد مما سيؤدي إلى المجاعات والحروب، ولكن خطأ مالثوس كما هو خطأ المتشائمين الآخرين هو أنهم لم يأخذوا بعين الاعتبار أننا لا يمكن لنا توقع النتائج المستقبلية واحتمالاتها، لذلك أخطأ تنبؤه، وازدادت قدرتنا على إنتاج المواد الغذائية بفعل تقدم العلوم والتكنولوجيا. لا يمكن لنا معرفة المشاكل المستقبلية، فضلاً عن الحلول اللازمة لها. إن زيادة المعرفة هو ما يمكن أن يحمينا من المستقبل المجهول، وهو ما يعني أن أي مشكلة ستكون محدودة ومؤقتة، ولو كان لدى الناس في الماضي مقدار أكبر من المعرفة لتمكنوا من تجنب الكثير من الكوارث، وهو ما يعني أننا اليوم - وبفعل تراكم المعرفة - في أكثر القرون أماناً لحد الآن. «المشكلات حتمية، ولكنها قابلة للحل» هذا ما يؤكده الكاتب، بل ويطلب منّا كتابته على الحجر!

ينتقد الكاتب «مبدأ العادية» الذي يقول بأنه لا يوجد شيء مميز في الإنسان والأرض والنظام الشمسي، هذا المبدأ الفلسفي تطوّر بفعل الاكتشافات العلمية التي أظهرت أن الأرض ليست مركز الكون، وأن البشر تطوّروا من كائنات أكثر بدائية، وأنهم يشتركون مع بقية الكائنات في الأصل. يتجلى هذا المبدأ بوضوح في كلام العالم الفيزيائي ستيفين هوكنج الذي قال إن «الجنس البشري ليس سوى حثالة كيميائية على كوكب متوسط الحجم، يدور حول نجم عادي جداً في ضاحية خارجية ضمن مجرة واحدة من مئات المليارات من المجرات». من المفترض أن يخرجنا هذا المبدأ من ضيق أفقنا البشري ليفتح أمامنا آفاق الكون الواسع، ولكن الكاتب باعتباره ضيّق الأفق، فالبشر - وأي كيان ذكي آخر يستطيع صناعة المعرفة التفسيرية - مميزون في الكون بأمور كثيرة، أهما قدرتهم غير المحدودة على صنع المعرفة. إن المعرفة تؤدي للسيطرة والتحكم، وبالتالي فالمعرفة الصحيحة تجعل كل شيء ممكناً طالما لم يكن محظوراً وفقاً لقوانين الفيزياء. إن هذا يعني أن البشر كما غيروا سطح الأرض بمعرفتهم فإنهم سيتمكنون في المستقبل من إحداث تغييرات كبيرة على مستوى الكون.

حجم الكتاب كبير - نحو 500 صفحة - وكمية الأفكار فيه كبيرة وعميقة، ولم أذكر منها في هذه المساحة البسيطة سوى النزر اليسير. ينتقد الكاتب وبثقة كبيرة عدداً كبيراً من المفاهيم التي يعتبرها خاطئة كـ «التجريبية»، «الاستقرائية»، «الوضعية»، «الاختزالية»، «النسبية» و «ما بعد الحداثية» وغيرها، وينقد كذلك أفكار عدد كبير من العلماء مثل ستيفين هوكنج، ريتشارد دوكنز، ريتشارد فاينمان، توماس أديسون وحتى مخرج الأفلام الوثائقية ديفيد أتينبارا. لا أعتقد أن أحداً سلم من انتقاداته سوى الفيلسوف كارل بوبر! هل يبدو هذا كثيراً؟ نعم، وهناك الكثير من الأفكار الثقيلة التي يطرحها الكاتب كذلك، كثير منها لم يُتحْ له شرحها بشكل وافٍ. يحسب له استخدام الأمثلة والتجارب الفكرية لتبسيط أفكاره قدر الإمكان، وكذلك توضيح المصطلحات المستخدمة، وتلخيص كل فصل في نهايته. كان هناك فصل خاص أيضًا لخّص فيه مفاهيم كثيرة بطريقة أدبية استعار فيها طريقة أفلاطون الحوارية. لا أرى أن فكرة الكتاب الأساسية أطروحة علمية، بل هي أقرب إلى أن تكون نظرة فلسفية ومزاج مبني على إطلاع وتفكير عميق على مختلف المنتجات الحضارية البشرية، خصوصاً العلمية منها.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً