من طبائعنا التي أضحت مترسخة في حياتنا اليومية ألا نستشهد في خطبنا وأحاديثنا وكتاباتنا بروائع الكلم والقول المأثور، مهما كانت جميلة أو ترتقي إلى مصاف بلاغة الحِكم المتسقة مع كل الديانات والثقافات الإنسانية، مادام قائلها ينتمي إلى فكر آخر أو دين أو مذهب أو حزب آخر، لا يتفق مع هوانا السياسي أو الديني، لكي لا نسجل نقطة لصالحه أو نروّج مجانياً لفكره كما نتوهم، وكأنما فكرنا بذلك وحده الذي امتلك الحقيقة المطلقة، ووحدنا من يمتلك ينابيع وكنوز الحكمة والمعرفة في العالم بأسره. أو قل لكأننا من تصدق عليهم الآية الكريمة «من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً كُل حزب بما لديهم فرحون». (الروم/32).
ولا يمكن أن نضع هذه الممارسات من قِبل المثقفين العرب وفي عدادهم رجال الدين، إلا في خانة التعصب المقيت، وثمة فرق بطبيعة الحال بين التعصب والالتزام الحضاري العقلاني بالفكر أو المذهب الذي يؤمن به الفرد، وينافح دفاعاً عنه ويعمل على نشر مبادئه وشعاراته.
ولعل المرجع الديني والمفكر العربي اللبناني الراحل السيدمحمد حسين فضل الله هو واحد من المثقفين العرب الكبار القلة، الذين كانت لهم إسهامات موضوعية متميزة في التفريق بين التعصب المتشرنق على الذات، والذي يضيق أشد الضيق بالفكر الآخر المختلف، إلى حد الرغبة بتصفية صاحبه سياسياً إن لم يكن جسدياً، وبين حق المرء في الالتزام بالفكر الذي يستهويه أو يؤمن به دون مصادرة الآخر في حق تبنيه الفكر المخالف، والدفاع عنه، ونشر مبادئه في إطار التعايش الرحب بين مختلف الثقافات والأفكار، وتنافسها الحر الحضاري الشريف في ميادينها وساحاتها العامة.
قبل أيام بعث لي أحد الأصدقاء الإسلاميين من مُحبي فضل الله فيديو يشخّص فيه هذه القضية تشخيصاً موضوعياً يفرّق من خلاله بين التعصّب المريض للفكر، وبين الالتزام الرحب المرن بالفكر الذي يؤمن به الإنسان، وذلك ضمن كلمة له في حشد كبير من الحضور بأحد المؤتمرات التربوية في بيروت، وتالياً أعرض فقرة مطولة من الكلمة كما دونتها استماعاً من تسجيل الفيديو: «من حقكم أن تختلفوا في الانتماء بحسب اقتناعكم، لكن ليس من حقكم أن تتعصبوا لانتمائكم، ليس من حقكم أن تحملوا الحقد لمن لا يتفق معكم في انتمائكم، والجريمة الكبرى هي أن تعلموا أولادكم، أيتامكم، طلابكم، التعصب» .
هناك فرق بين أن تكون ملتزماً أو أن تكون متعصباً، أن تكون ملتزماً من حقك أن تلتزم بما اقتنعت به مئة في المئة، ولا تجامل أحداً في التزامك ما دمت مُقتنعاً بالتزامك، أياً كان مضمون الالتزام، وعندما تكون إنساناً يحمل فكراً فإنه يملك رحابة أن يعترف بأن من حق الإنسان أن يحمل فكراً مخالفاً، حتى لو كنت لا تقبل به. أما عندما تكون متعصباً فإنك تزرع الحقد في نفسك ضد الإنسان الآخر، وعندما تنقل تعصبك إلى كل هؤلاء البراعم، فانك تفسد عليهم فترتهم، وإنسانيتهم، وتصنع منهم مشروع جريمة في المجتمع، ومشروع فتنة في المجتمع، ولذلك فإني أعتقد أن كل المتعصبين هؤلاء مجرمون في حق الأمة».
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5145 - الجمعة 07 أكتوبر 2016م الموافق 06 محرم 1438هـ
جميل