هو القادم من زمن المستقبل، من عشب يرفل بالأمل ويصدح بالفرح المبتغى، من مفاصل رحم الصفاء ومن صوب نجوم السماء وعند الغسق الناعس بين شروق شمس.
إنه القادم من عناق المحبة محمّلاً بابتسامات الصباح ونسمات الحنان حيث نام القمر، إنه القادم من مخاض الحب ووهج الأمنيات وزهوة الأحلام حيث تمدد في دفء رحمها، باسطاً أصابعه الصغيرة ملوحاً يتحسس درب الحياة في عيونهما الناعستين.
هز الوليد قدومه أرجاء المكان وثوابت الأشياء مخلّفاً في كل الزوايا أثراً ومغزى وربيعاً باسماً، يطاردهم واحداً واحداً منذ زمن الأجداد، يبطئ إطلالته ساعات طويلة بعد إنذار تلو آخر، لم يعبأ برتم الزمن الافتراضي، فهو في الأرجوحة يغنّي ويمرح، يسبح كما الأسماك الصغيرات بين خاصرتها وبتموّجات موجعة هنا وشهقة هناك، مضت الأشهر سريعة وهي تتعلم معه الحبو في عالم الأمومة خطوة تلو خطوة، تتنفس زنابق المحبة بتمهّل، تغني له أناشيد الصغار وتركّب المكعبات وتحكي له قصص الجن والأنس وتركبه الخيل وتطارد معه القطط والدجاج والأغنام، وتضع بين أصابعه الناعمة عصفورة زرقاء تمده بوردة يستنشق رحيقها... تمضي معه غير عابئة بما حولها، لا شيء يوقف الزمن بعد حضورك البهي أيها الصغير الجميل القادم إلى عالمنا.
انتظرناك بصمت المتأمل ولهفة المسافر، فرشنا دربك في أحلامنا بمئات الحكايات وأقسمنا بزرقة السماء أن تكون زمردة الكون حولنا ولؤلؤ الصبايا ونثرات الياسمين والرياحين في مسائك الجميل. أنت أيها القادم المختال في زمن الوجع والألم.. أسرع الخطى.. أسرعها كما قالها محمود درويش يوماً.
«..وستأتيه الخُطى في ذات عامْ
عندما يكبُر أحفاد الذي عمَّرَ دهراً
يقلعُ الصخرَ، وأنيابَ الظلامْ..»
ممراتنا شائكة يا صغيري، نمضي ليالينا في عتمة ننشد فيها الضوء البعيد، نسرق الضحكات من الوقت حتى لا ننسى أن الحياة تمضي بنا سريعاً، فتعالَى يا همس الأمسيات ويا حفيف نخيل الأرض ولؤلؤ البحار، فالأحضان متلهفة لاكتشاف خفايا عيونك. أكثَروا الصلوات في أذنك وأنت لا تسمع بعد، سمّوا عليك بالرحمان وتلو الأدعية ولقنوك.. لكن سرك الدفين في ثغرك الباسم وتحديق عينيك حيث حنانها بحر وقبلات.
رأيت وجهك قبل يومين في المنام، رسمت عيونك ولونت شعرك وخمنت وإذا بك أغنية ربيعية تطاردني كل ليلة في الأحلام، رأيتك بين الماء حاضراً في دفترى وأوراقي وعند باب دارنا الكبير وفي شعاع قلوبنا وعلى حبال الغسيل وفي كل فوضى المكان. رأيتك بين الرموش ساكناً محدقاً وعلى مائدة الإفطار تخربش وفي شجرة الليمون التي عشقها جدك، في المنام وفي حكايات الجن كنت تتموج بين السحاب تنزل مع قطرات المطر تغسل قلوبنا المتعبة تفتح نوافذها وتضمّد جراح مدينتنا الحزينة، تكبر معك الشجيرات وتتناثر الألوان في حديقة بيتنا.
أيها القادم نرتشف معك ندى الصباح ونطير بجناحيك إلى الحرية عند الضفاف، نفتح معها الأبواب الموصدة، نفتح معها باب الأمل بحضورك ونور كفك، نصلي ونغط في أحلام يقظتنا نحو الربيع ونغني لك:
«صباحك الصبّاحي.. الورد والتفاحي..
جيف تنكز التيتي.. هذى أبوك..هذى أمك.. هذى أختك
وزانه زانه زانه..
حمامة نودي نودي..
من صام ولا صلى غدا في النار يتكلّى..»
ونقص عليك الخرافات في كان ياما كان في قديم الزمان «أم الخضر والليف، وعلي بابا والأربعين حرامي.. وكل حكايات المنامة والنويدرات وكل مدن وقرى الأجداد والجدات».
تعالى فقد أيقظت كل الشهوات والذكريات التي غابت في العيون العذبة والبساتين الخضراء والبحار الزرقاء. تعالى في الأحضان قبل أن ترحل مراكبنا وخذ رايتنا البيضاء وغير أوقات نومنا وصحونا وعناوين بيوتنا وقلوبنا وارقص معنا وغنِّ كما تفعل عصافير الأرض في كل مكان كي يعم السلام والمحبة والعطاء.. تعالى يا صغيري ويا حفيد أجداد الأرض «هيثم».
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5142 - الثلثاء 04 أكتوبر 2016م الموافق 03 محرم 1438هـ