هل يمكن اعتبار تاريخ الإسلام إعادة بشكل مختلف لتاريخ النموذج الأوروبي عن العلاقة بين الدين والعلمانية، أم أن الإسلام ظاهرة استثنائية مختلفة؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يطرحه شادي حميد من مؤسسة بروكينغز العريقة في كتابه «الاستثناء الإسلامي: كيف يعيد الصراع على الإسلام تشكيل العالم». يميل حميد، كما يوحي عنوان كتابه إلى اعتبار مسار الإسلام مختلفاً عن المسار الأوروبي الذي أفرز لنا فكر الحداثة والعلمانية والليبرالية. بل يذهب إلى أبعد من ذلك ويقول إن احتمالية «علمنة الإسلام» صغيرة جداً، وحتى النماذج التي تُطرح عن التوافق بين الإسلام والعلمانية كتركيا وتونس تفضح عدم وجود هذا التوافق.
بدأت مشكلة الشرعية السياسية في العالم الإسلامي منذ إعلان أتاتورك إنهاء نظام الخلافة الإسلامية في العام 1924، وهو نظام ظل قائماً بأشكال مختلفة منذ عهد النبي محمد. يقول الكاتب إن جميع تيارات الإسلام السياسي - وهي التيارات التي ترى أن الإسلام يجب أن يلعب دوراً مهماً في السياسة والحياة العامة - تشترك في سعيها للإجابة على هذه المشكلة. وهي بذلك تيارات حديثة نشأت نتيجة الاحتكاك بالفكر الغربي العلماني، فقبل وقوع هذا الاحتكاك كانت الشريعة الإسلامية - باختلاف تفسيراتها - هي نظام الحكم والقضاء الطبيعيين. تسعى تيارات الإسلام السياسي (أو على الأقل الاتجاهات السائدة فيها) إلى التوفيق بين الأفكار الإسلامية ما قبل الحداثية وبين الدولة الحديثة، وهي بذلك تمثل ظاهرة حديثة. ولكن هذه المشكلة لا تزال دون حل متفق عليه.
يستعرض الكاتب تاريخ جماعة «الإخوان المسلمين» بشكل مختصر منذ نشأتها في العام 1928 على يد حسن البنا. تعتمد هذه الحركة والحركات الأخرى المنتسبة لها أو المنبثقة عنها - والتي يشير إليها الكاتب بالاتجاه السائد في تيارات الإسلام السياسي - على أسلوب التدرّج أو «سياسة المراحل»، فعلى رغم من إيمانهم بسيادة الشريعة الإسلامية على قوانين الدولة، إلا أنهم قبلوا النظام البرلماني وعملوا من داخل الأنظمة، حتى وإن كانت علمانية. ما يجعل التيارات الإسلامية المتطرفة كتنظيم «الدولة الإسلامية» مختلفة هو رفضها التام لبنية الدولة الحديثة وبالتالي السعي نحو الثورة على هذا النظام بدل العمل ضمنه.
هل يمكن الفصل بين الإسلام والسياسة عند مناقشة قضايا مثل تنظيم «الدولة الإسلامية» أو «الرسوم الكارتونية المسيئة للنبي محمد»؟ في تخصصات العلوم السياسية في الغرب يتم الأخذ عادة بالعوامل المادية فقط كالظلم والتاريخ الاستعماري وغيرها من العوامل الاقتصادية والسياسية، ويتم اعتبار الدين مجرد طريقة للتعبير عن هذه الدوافع الكامنة، ولكن الكاتب يرى أن دور الدافع الديني كبير جداً فيما يتعلق بتيارات الإسلام السياسي، وهو أمر قد يبدو غريباً أو غير عقلاني بالنسبة إلى الليبراليين الغربيين الذين اعتادوا على لعب الدين دوراً هامشياً في الحياة. هذا الدافع الديني هو ما يجعل تيارات الإسلام السياسي مختلفة تماماً عن التيارات السياسية العادية، فهي لا تعمل لأجل هذا العالم فحسب، بل لأجل العالم الذي يليه أيضاً (الآخرة)، لذلك ما قد يكون خسارة وفشلاً بحسب التيارات السياسية العادية، يمكن أن يكون انتصاراً ونجاحاً بالنسبة إلى التيارات الإسلامية.
هناك اختلافات أساسية بين الإسلام والمسيحية، تجعل الثاني قابلاً للعلمنة بصورة أكبر بكثير من الأول، فهو يحتوي نصوصاً دينية مثل «أأعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ». وبسبب إمساك الكنيسة الكاثوليكية بمقاليد السلطة السياسية لمئات السنين وانتشار الاستبداد الديني، فقد انصب تركيز الإصلاح المسيحي على انتقاد الكنيسة والتركيز على العودة إلى الكتاب المقدس، وهذا ما فتح الباب واسعاً أمام العلمانية والليبرالية، بسبب صمت الكتاب المقدّس عن مواضيع السياسة والحكم. في المقابل لم يكن النبي محمد مجرد شخصية دينية فحسب، بل كان قائداً سياسياً وعسكرياً وقاضياً. والقرآن كذلك مختلف بشكل كبير عن الكتاب المقدّس، فهو يحتوي تعليمات سياسية وقضائية لا نظير لها في الكتاب المقدس. وهناك أيضاً العامل التاريخي الذي يلقي بظله الثقيل على المشهد. لذلك فإن مشروع تأويل النصوص الإسلامية لتوفيقها مع العلمانية لا تلقى رواجاً بين جمهور المسلمين.
يتطرق الكاتب بشيء من التفصيل لحركة الإخوان المسلمين في مصر، والحركات الإسلامية في تركيا وصولاً إلى حزب العدالة والتنمية، وفي تونس «حركة النهضة». ويرى أن القاسم المشترك بين هذه الحركات هو أنها إما أن تصبح ليبرالية أو تجبر على التخلي عن إسلاميتها أو على الأقل تقلل منها وتخفيها، وهذا لا يعد حلاً لمشكلة الإسلام والدولة الحديثة، بل تأجيلاً للمشكلة التي سرعان ما تظهر للسطح مجدداً. وهناك أيضاً فصل عن تنظيم «الدولة الإسلامية» وآخر عن علاقة الإسلام، الليبرالية والديمقراطية، يذكر فيه أن التفريق بين الديمقراطية والليبرالية مهم، وأنه من الممكن أن تنشأ لدينا ديمقراطية غير ليبرالية.
يختم الكاتب بقوله إن الإصلاح الإسلامي المنشود لن يأتي على المدى القريب والمتوسط وقد لا يأتي مطلقاً وإن اعتبار الليبرالية مساراً محتوماً للتاريخ هو أمر غير صحيح، ولذلك لا بد للسياسات العامة من التعامل مع الوضع كما هو بدلاً عن الأحلام بحدوث إصلاح ديني في الإسلام شبيه بذلك الذي تم في المسيحية.
دعَّم الكاتب أطروحته ومناقشته بمقابلات ولقاءات قام بها وصاغها بأسلوب جميل. والسؤال الذي يطرحه في الكتاب مهم جداً كونه يتعلق بمستقبل المنطقة وربما العالم أجمع. ولكن نقاط القصور في الكتاب كبيرة، حيث إن الكاتب لم يستعرض حجة القائلين بإمكانية «علمنة الإسلام» إلا بصورة بسيطة جداً، بينما خصص مساحة كبيرة للحجة المضادة. من المفترض عند الرغبة في تفنيد وجهة نظر ما، أن يتم تقديمها في أقوى وأوضع صورها ومن ثم الرد عليها. كذلك لم يتم التطرق لحركات مهمة في الإسلام السياسي كالتيارات الشيعية والسلفية، وهذه الأخيرة بالخصوص كان يجب التطرق لها عند الحديث عن تنظيم «الدولة الإسلامية». في المقابل ركّز الكاتب بشكل مبالغ فيه على الأحداث المعاصرة في مصر، خصوصاً تلك التي سبقت وتلت عزل الجيش - أو انقلابه على - الرئيس محمد مرسي.