في شهر يونيو/ حزيران 1971، وخلال محاورة جمعت الروائي والكاتب الأميركي - الإفريقي جيمس بالدوين مع الشاعرة الأميركية - الإفريقية نيكي جيوفاني، أطلق بالدوين مقولة شهيرة، تعد اليوم واحدة من أشهر العبارات المقتبسة لهذا الناشط في مجال الحقوق المدنية والكاتب الذي يعتبره البعض «أعظم كاتب أسود في العالم» على رغم تحفظات على جزئية توجهاته المثلية.
عبارة بالدوين تقول «العالم ليس هو من يمارس القمع ضدي، لأنك إذا سمحت للعالم بممارسة القمع ضدك لفترة طويلة وبشكل فاعل، فإنك بعدها تصبح متآمراً ضد ذاتك وشريكا في جريمة قتل نفسك».
هذه العبارة ظلت تلح عليّ لأيام طوال، بعد مكالمة هاتفية مع قارئ مميز، طلب مني خلالها ضرورة الكتابة عن تجاهل الجهات الرسمية المعنية لعطاءات المبدعين البحرينين، مفيداً بأن هؤلاء لا يحتاجون لإبقاء جذوة ابداعهم مشتعلة سوى دعم مادي أو دعم يتمثل في توفير ورش ودورات التدريب وترشيحهم لفعاليات في داخل البحرين وخارجها.
لم أتفاعل بشكل كبير مع مطلب القارئ، لا انكاراً مني لأهمية هذا الدعم لأي مبدع، مبتدئا كان أم نجماً في مجال إبداعه، لكنني والحق يقال، ما عادت أذناي تطرب كثيراً لسماع هذا اللحن الكليشيهي الممل.
طوال كتابتي في الصفحة الثقافية، التقيت بكثير من المبدعين في جميع المجالات. بعض هؤلاء صنعوا اليوم أسماء بارزة لهم، وبعضهم اختفى، تراجع وذبلت موهبته. الطريف أنه عبر تلك السنوات، ترددت على ذهني مقولة الدعم هذه، من الجميع، بلا استثناء، جميع من يضع قدمه في عالم الإبداع، يتحدث أولا وقبل كل شيء عن الدعم الرسمي.
اليوم، حقيقة، وبعد ما يزيد على العشرة أعوام، أجد قبول هذه العبارة، أمراً صعباً، نفسياً وذهنياً. مصطلح الدعم بات كشمّاعة قديمة بالية يلقي عليها الجميع أسباب تراجعهم أو كسلهم أو اخفاقهم أو أي من اخطائهم. لم أسمع حديثاً عن دعم آخر لا يجعل منهم نجوماً ولا يعود عليهم بمزايا آنية.
حقيقة أيضاً، فإنه لولا أني صادفت نموذجاً مختلفاً لهؤلاء المبدعين الأعزاء، لما تمكنت من عقد هذه المقارنة ولما تمثلت مقولة جيمس بالدوين أعلاه.
هو حالة إبداعية مميزة، تجعلك عاجزاً عن قبول مفردات المبدعين، صغارهم وكبارهم، وهي حالة الروائي والسيناريست فريد رمضان. هذا المبدع النجم، الغزير في عطائه، المتفرد في أخلاقه وإنسانيته، الذي يقدم صورة أخرى وخطاباً ثقافياً مغايراً.
بأسلوب حياته، وبسيرة إبداعه، يسرد قصة إبداع بحرينية مختلفة، قصة تقول أن الإبداع لا يحده زمان أو مكان، لا يمنعه نقص في الدعم المادي ولا ينتظر اعترافاً رسمياً بوجود قامة إبداعية قدمت للساحة الثقافية الروائية والسينمائية ما لا يمكن لأي جهة تغافله أو غض الطرْف عنه. هذا الرجل الذي يمكن أن ينسب له الفضل في وضع لبنات كثير من المبادرات والحركات الإبداعية، هو واحد من مبدعين بحرينيين قلائل، ممن لم يوقف إبداعهم قلة الدعم او انعدامه أو حتى تجاهل وجود مبدع كفريد رمضان.
هو اليوم، وعلى رغم ظروفه الصحية، يواصل كتاباته، ويستمر في تقديم نصوص سينمائية للشباب، يكتب رواياته، يدعم مخرجاً مبتدئاً هنا، وآخر يخطو نحو النجومية هناك. لا ينتظر دعماً مالياً، ولا تكريماً واعترافاً رسمياً، ليثرى الساحة البحرينية بإبداعاته وليرفع اسم البحرين عالياً في مختلف محافل الإبداع العربية والعالمية.
فريد رمضان نموذج، ينبغي على الشباب من المبدعين التوقف عنده كثيراً، هذا الرجل الذي يؤمن أن موهبته هي نعمة مَنَّ الله بها عليه، وأن امتنانه لتلك النعمة يعني ألاَّ يتوقف عن إسعاد الآخرين بعطائها وبما تمنحه إياه من قدرات على الخلق والإبداع.
لفريد رمضان ولكل من يشبهه من مبدعي البحرين الذين لا يوقفهم دعم أو اعتراف ولا يتآمرون مع العالم لقمع إبداعهم. لهؤلاء جميعا أرفع القبعة. وللشباب ممن يشكون قلّة الدعم أو ندرته أقول: لا تتآمروا على مواهبكم، واجهوا قمع العالم وجهله بإبداعكم، أثبتوا للجميع أنكم زهور برية تنمو وتتفتح في ظروف لا تخطر على بال أحد.
إقرأ أيضا لـ "منصورة عبد الأمير"العدد 5138 - الجمعة 30 سبتمبر 2016م الموافق 28 ذي الحجة 1437هـ
من آمن بما بين يديه.. لم يكترث بكل ما سيكون عليه..
مقال را ئع جدا ويناقش قضية مهمة ومحورية. شكرا للكاتبة المتميزة لهده الافكار البكر.
مقال جميل ... موفقون