في دول العالم الثالث، وبضمنه عالمنا العربي، تُعد أمراض زعمائه من أسرار الدولة العليا، وقلما يجري إطلاع الشعب عليها، بل قلما اعترف أحد منهم بأن حالته الصحية الحرجة أو تقدمه في السن يمنعانه من الاستمرار في قيادة دفة الحكم بصورة طبيعية. وظلت مقولة «إن الزعيم لا يخرج من كرسي الحكم إلا إلى القبر» هي السائدة، ولطالما شاهدنا في هذا العالم، ومازلنا نشاهد، قادة في أرذل العمر وفي أسوأ أحوالهم الصحية وهم يمارسون أدوارهم الرسمية والبروتوكولية في قيادة البلاد بصورة تبعث ليس على الشفقة على هذه الزعامة فحسب بل والدولة التي يتزعمها في آن واحد، فبروز زعيم أو قائد دولة وهو على هذا النحو من دون أن يتخلى عن كرسي القيادة إن بإصراره أو لفرضه من قِبل أجنحة الحكم لاعتبارات توازنية، إنما يعبّر عن مرض الدولة أيضاً لا زعيمها وحده.
على أن إمبراطور اليابان الحالي أكيهيتو (82 عاماً) أقدم خلال شهر يوليو/ تموز الماضي على خطوة غير مألوفة في التاريخ الإمبراطوري للبلاد، وذلك بمخاطبته الشعب للإعراب عن قلقه من الأمراض التي يعاني منها وتقدمه في السن بصورة قد تمنعه من تأدية مهامه على النحو المطلوب، وأنه بات يفكر في تسليم منصب «الإمبراطور» إلى شخص آخر. ولعل الوجه غير المألوف في بادرة إكيهيتو لما تمثله شخصية الإمبراطور من مكانة مُقدسة لدى الشعب الياباني برمته، فهو يعتبر «ابن الشمس»، ويستحق التضحية والفداء. ولذا كان الإمبراطور هيروهيتو (والد الإمبراطور الحالي أكيهيتو) يحظى بمكانة مُقدسة لدى أفراد الجيش الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، ولم تكن تطلعات هذا الجيش نحو التوسع الإمبريالي بالتحالف مع دول المحور، وما ارتكبه من جرائم حرب في كوريا والصين وبلدان جنوب شرقي آسيا، معزولةً عن مباركة ودعم هيروهيتو والذي هو نفسه يتقلد رتبة عسكرية عليا.
لكن ولي عهده الإمبراطور الحالي أكيهيتو بدا أنه اتعظ جيداً من دروس هزيمة اليابان المريرة في نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 في عهد أبيه إثر استسلامها بعد إلقاء أميركا قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي، ففي عهده جرى ترسيخ التعددية الحزبية، وحق تداول السلطة بموجب انتخابات حرة ديمقراطية ونزيهة ولم يحمل رتبة عسكرية، أكثر من ذلك تزوج من واحدة من عامة الشعب، أي من خارج الأسرة الإمبراطورية ألا هي ميتشيكو بعد أن تعرف عليها في ملعب لكرة المضرب. ويُقال إنه كسر حاجز التقاليد الإمبراطورية المتوارثة التي تمنع من اختلاط أفراد الأسرة الحاكمة بأفراد الشعب، ولعب دوراً مهماً في تقريب الأسرة الإمبراطورية من أفراد الشعب، حيث حرص على الانفتاح على الداخل، حيث حرص على زيارة كل محافظات البلاد الـ 47، وعلاوة على زياراته للكثير من بلدان العالم الأوروبية والغربية، فقد حرص على زيارة البلدان الآسيوية التي عانت من جرائم جيش بلاده أثناء احتلاله لها. وهكذا فقد ارتبطت فترة استقرار اليابان ونهوضها الاقتصادي بالإمبراطور الحالي أكيهيتو.
بيد أن ثمة مصاعب دستورية تواجه الخطوة الجريئة التي يزمع إمبراطور اليابان الحالي الإقدام عليها، فمن الناحية الدستورية لا يحق للامبراطور مخاطبة الشعب سياسياً، في حين اعتبر تحدثه للشعب من هذه الناحية حديثاً سياسياً، كما تخلو التشريعات اليابانية من مسألة التخلي عن العرش، وكيفية سد الفراغ الناجم مما يحتم معه اجراء أو ادخال تعديلات دستورية لحل هذه الإشكالية، وبخاصة أن هذه هي المرة الاولى التي يلمح فيها امبراطور عن نيته التخلي عن العرش منذ زهاء قرنين من الزمن. وأياً كان الأمر فإذا ما تم التغلب على تلك الإشكاليات القانونية والدستورية ونفّذ الامبراطور عزمه على التخلي عن العرش الامبراطوري الياباني، سيكون ذلك حدثاً مفصلياً مهماً ليس في تاريخ اليابان فحسب، بل ولكل الأنظمة التعددية الشبيهة، سواء على مستوى القارة الآسيوية أم على مستوى العالم بأسره.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5138 - الجمعة 30 سبتمبر 2016م الموافق 28 ذي الحجة 1437هـ