يُعيدنا الحوار الذي أجراه الباحث والفيلسوف الفرنسي بول رابينو مع الفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي ميشيل فوكو، في مايو/ أيار 1984، قبل وفاته مباشرة، وقامت بترجمته ليديا ديفيز، ونشر في المجلد الأول من «علم الأخلاق»، من «الأعمال السياسية لفوكو»، التي صدرت في نيويورك العام 1997، وإلى العربية نقله المترجم المصري محمد هاشم، ونشرته مجلة «أوان»، في العدد 11، العام 2005، والتي كانت تصدر عن كلية الآداب بجامعة البحرين، يُعيدنا إلى عدد من المحاور المهمة التي تناولها، ولعل أهمها ما بدأ به الحوار، رداً على سؤال نصه: لماذا لا تشارك في المجادلات العنيفة؟ حيث قال فوكو، بأنه يصر على الاختلاف المعرفي والبحثي والأيديولوجي، كشيء ما أساسي أو جوهري. «هناك أخلاقيات بأكملها في خطر، تلك التي تتعلق بالبحث عن الحقيقة والعلاقة بالآخر».
مرَّت منذ رحيله في 25 حزيران/ يونيو 1984، 32 سنة، فيما بقيت أطروحاته والمعالجات حاضرة وفاعلة بقوة في الحقول المعرفية الإنسانية، بالجدل الذي مازالت تثيره وتنشِّطه في الأوساط الأكاديمية والبحثية، ولعل عدداً من إصداراته المبكِّرة والجديدة في معالجاتها، تكشف قدرتها على الصمود حتى يومنا هذا، بدءاً بـ «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، والذي صدر في العام 1961، ويختبر فيه «الأفكار والممارسات والمؤسسات والفنون والآداب المتعلقة بالجنون في التاريخ الغربي»، وكتابه الثاني «ولادة العيادة»، الذي عدَّه باحثون كُثُر حفريات في التشخيص الطبي، ويتتبَّع آثار تطور مهنة الطب، وخصوصاً العيادة، ونشر العام 1963 في فرنسا، وتُرجم إلى الإنجليزية في العام 1973. و «المراقبة والمعاقبة»، ونشر في العام 1975 وترجم إلى الإنجليزية في العام 1977، الذي يفحص فيه الآليات الاجتماعية والنظرية التي كانت وراء الاختلاف الرهيب بين نظم العقاب في العصر الحديث، وغيره من الكتب مثل: «المرض العقلي وعلم النفس»، «الكلمات والأشياء»، (1966)، وهو حفر في العلوم الإنسانية، وصولاً إلى ذروة الأطروحة فيه تلك التي يرى فيها أن «كل مرحلة تاريخية تمتلك شروطاً خاصة للحقيقة تحدد ما هو مقبول وما هو غير مقبول»، ورؤيته التي تتحدد في «أن شروط الخطاب العلمي تغيرت مع الزمن بقفزات مفاجئة وكبيرة، ما بين مرحلة معرفية إلى أخرى»، ولدينا كتابه «حفريات المعرفة»، (1969)، «نظام الخطاب»، (1971)، «تاريخ الجنسانية»، في 3 أجزاء، (1984)، «إرادة المعرفة»، «استعمال المتعة»، و «هوس الذات».
اللعبة الخاصة بالأسئلة والأجوبة
وعودة إلى السؤال عن عدم مشاركته في المجادلات العنيفة، وتفصيله في هذا الشأن؛ إذ يرى أنه في اللعبة الجادة والخاصة بالأسئلة والأجوبة، في القيام بالشرح أو التوضيح المتبادل، ثمة حقوق لكل شخص متأصِّلة بشكل أو آخر في المناقشة. «هذه الحقوق تعتمد فقط على الموقف الحواري. يمارس الشخص الذي يقوم بتوجيه السؤال الحق الذي أعطي له. أن يظل غير مقتنع. أن يكون على وعي ودراية بالتناقض. أن يطلب مزيداً من المعلومات، أن يؤكد الافتراضات أو المسلَّمات المختلفة، أن يشير إلى التعليلات المليئة بالعيوب والنقائص (...)».
يقف فوكو على المجادل باعتباره طرفاً طفيلياً على العملية ولا تخلو مشاركته من العنف، في شكل من أشكاله؛ إذ يخوض المجادل المواجهة وقد تحصَّن خلف الامتيازات التي منحها لنفسه مقدماً، ولن يوافق أبداً على أن يتساءل. إذ يرى فوكو أن المجادل «يمتلك - كمبدأ - الحقوق التي تخوِّل له شن الحرب، وجعل ذلك الصراع بمثابة قضية عادلة أو شيء مشروع؛ الشخص الذي يواجهه ليس شريكاً في البحث عن الحقيقة بل عدواً، ذلك العدو الذي هو على خطأ دائماً».
من هنا يضعنا فوكو أمام خلاصة مفادها أن المجادل لا تتكون اللعبة بالنسبة له من الاعتراف بهذا الشخص كذات فاعلة لها الحق في التحدث لكن لإلغائها كمخاطب أو كمحاور، من أي حوار ممكن؛ وسيكون هدفه النهائي ليس الاقتراب قدر الإمكان من صعوبة الحقيقة؛ بل فقط إحراز انتصار للقضية التي كان يناصرها بوضوح منذ البداية. وبالتالي «يعتمد المُجادل على شرعية أن خصمه بوضوح مرفوض أو نكِرَة».
كتابة تاريخ المجادلات
في المحور نفسه يرى وجوب كتابة تاريخ طويل من المجادلات. سيحدث ذلك يوماً ما. هنا يوصِّف فوكو المجادلات باعتبارها شكلاً طفيلياً على المناقشة، وكعائق أو عقبة في سبيل البحث عن الحقيقة. يقول: «على نحو تخطيطي جداً، يبدو لي أن بإمكاننا اليوم التعرف على وجود ثلاثة نماذج من الجدال: النموذج الديني، النموذج القضائي، والنموذج السياسي، كما في المذهب الهرطقي»؛ إذ تعيّن عملية المجادلة لنفسها مهمة التحديد القبلي المسبق للركيزة الأساسية غير الملموسة للتعصب المذهبي، المبدأ الجوهري والضروري الذي أهمله الخصم، تجاهله أو تجاوزه، ويشجب المجادل هذا الإهمال كعيب أخلاقي.
ومع كل ذلك، يرى فوكو أن إعادة التنشيط في المجادلات، للممارسات السياسية، والقضائية، والدينية، ليست أكثر من شكل مسرحي أو وسيلة للتعبير «يشير أحدهم في حديثه إلى اللعنات، العزل (الحرمان الكَنَسِي)، الإدانات، المعارك، الانتصارات، والهزائم على أنها كلها ليست أكثر من طرق للتحدث، أولاً وأخيراً»، لكن يبقى الخطاب في شكل محاضرة، هو أيضاً سبيل للفعل والتصرف لا يخلو من نتيجة.
الجينالوجيا (تتبع جذور الحقيقة)
في سؤال نصُّه: هل تريد أن تقول إن عملك يقوم بتنسيق العلاقات في علم الأخلاق، والسياسة، وجينالوجيا (تتبُّع مصادر وجذور) الحقيقة؟، ردَّ ضمن تفصيل، بأنه يحاول أن يرى كيف أن هذه العمليات قد تتداخل مع بعضها بعضاً في تكوين أو صياغة حقل علمي، مع هيكل سياسي، مع ممارسة أخلاقية. «دعنا نأخذ الطب النفسي كمثال: لا شك، أنه بإمكان المرء تحليله اليوم على أساس هيكله المعرفي - حتى وإن كان هذا لا يزال غير دقيق إلى حد ما؛ بوسع المرء أيضاً تحليله في إطار المؤسسات السياسية التي تعمل فيه»، كما يمكن دراسته في ضوء تضميناته الأخلاقية.
تناول الحوار «تاريخ الإشكاليات» الذي بحثَه فوكو في كثير من أعماله، وحتى ندواته والنقاشات ضمن الدائرة الأكاديمية وحتى خارجها، مبيناً أنه حاول أن يرى إن كان بالإمكان توصيف تاريخ الفكر كشيء مختلف عن كل من تاريخ الأفكار (تحليل أنظمة التمثل أو التصور)، وتاريخ العقليات (تحليل المواقف، وأنواع التصرف) «بدا لي أنه كان هناك عنصر واحد كان قادراً على وصف تاريخ الفكر - كان هذا العنصر هو ما يمكن أن يطلق عليه المرء المشاكل، أو، بالتحديد أكثر، الإشكاليات»، مبيِّناً أن ما يميز الفكر هو أنه شيء ما مختلف كلية عن مجموعة التصورات التي تشكل سلوكاً معيناً، وهو أيضاً مختلف كلية عن حقل المواقف التي يمكن أن تحدد هذا السلوك (...).
ضوء ويكيبيديا
ولد ميشال فوكو في 15 أكتوبر/ تشرين الثاني 1926، وتوفي في 25 حزيران/ يونيو 1984. كان يحتل كرسياً في الكوليج دو فرانس، أطلق عليه اسم «تاريخ نظام الفكر». وقد كان لكتاباته أثر بالغ على المجال الثقافي، وتجاوز أثره ذلك حتى دخل ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية ومجالات مختلفة للبحث العلمي.
عرف بدراساته الناقدة والدقيقة لمجموعة من المؤسسات الاجتماعية، منها: المصحات النفسية، المشافي، السجون، وكذلك أعماله فيما يخص تاريخ الجنسانية. وقد لقيت دراساته وأعماله في مجال السلطة والعلاقة بينها وبين المعرفة، إضافة إلى أفكاره عن «الخطاب» وعلاقته بتاريخ الفكر الغربي، صدى واسعاً في ساحات الفكر والنقاش.
توصف أعماله من قبل المعلّقين والنقاد بأنها تنتمي إلى «ما بعد الحداثة» أو «ما بعد البنيوية»، على أنه في الستينيات من القرن الماضي كان اسمه غالباً ما يرتبط بالحركة البنيوية. وعلى رغم سعادته بهذا الوصف إلا أنه أكد فيما بعد بُعده عن البنيوية أو الاتجاه البنيوي في التفكير. إضافة إلى أنه رفض في مقابلة مع جيرار راول تصنيفه بين «ما بعد البنيويين» و« ما بعد الحداثيين».